ندرك تماما أن الإحتفالات حتى وإن كانت تحمل نفس التسمية فإنها تختلف من حيث طعمها ومذاقها ومن الطبيعي أن يكون الإحتفال بالقدس عاصمة للثقافة العربية لعام 2009 يحمل مذاقا مختلفا عما إن كانت الإحتفالات تخص عاصمة أخرى تتمتع بحريتها واستقلالها. وقدر القدس تلك المدينة العريقة التي لم تكن في يوم ما قبل أن تنشئ تلك الدولة العبرية على أنقاض حق الشعب الفلسطيني تضيق بمن يبحث عن طهارة الروح وشفاء النفس السقيمة بشم هوائها وملامسة ترابها وزيارة مساجدها وكنائسها قدرها اليوم أن تقع أسيرة في قبضة عصابة ممن يحرّمون ما هو حلال ويدنّسون ما هو مقدس بدعوى "استرداد الأرض الموعودة". قدر القدس تلك الأرض المقدسة أن يقع منازعة العرب والمسلمين في حقهم فيها. وقدرنا اليوم أن تمتزج مشاعر الفرحة عندنا بشيء من المرارة عندما نقرأ في مختلف برقيات وكالات الأنباء العالمية عن التضييقات الأمنية والإحتياطات العسكرية و التهديد والوعيد الذي تطلقه الدولة العبرية معلنة أنها تمنع أي نشاط يقام احتفالا بعاصمة العرب الثقافية للعام الجاري. من المفروض أن تكون قد شهدت عدة مناطق في فلسطين ومن بينها مدينة القدس وبعض المخيمات الفلسطينية خارج الأراضي الفلسطينية منذ يوم أمس انطلاق الإحتفالات. وكان وزراء الثقافة العرب قد نادوا خلال المؤتمر الأخير لمنظمة الألكسو الذي انعقد في تونس بمشاركة عربية مكثفة في الإحتفالات بهذا الحدث وأن يعملوا كل ما وسعهم لإنجاح الإختيار. نعلم جيدا أن الأمور لن تكون سهلة ذلك أن الفلسطينين وبعد تلك الحرب الظالمة التي شنتها اسرائيل بكامل ترسانتها العسكرية الحديثة ضد سكان غزة وما خلفته تلك الحرب من خسائر بشرية ومادية ومواصلة سلطات الإحتلال لمختلف أشكال الإستفزاز والإرهاب في مختلف المناطق الفلسطينية لاسيما تهجير السكان من بيوتهم خاصة بمدينة القدس بهدف تهويد كامل للمدينة في تحد صارخ للأخلاق والقيم التي تؤمن بها الإنسانية و في استهتار واضح بالقوانين الدولية , في ظل هذه الظروف لا تكون القلوب ميالة نحو الفرح والإحتفال وندرك أن النزاع على السلطة في فلسطين لم يجد بعد طريقه نحو الحل لكن الفلسطينيين يقدمون دائما الدروس على الميدان. إن التحدي وعدم الإستسلام لا يتعامل معها الفلسطينيون على أنها واجب بل هي قدر ليس منه فرار. لقد جاء اختيار القدس عاصمة للثقافة العربية هدية على طبق لمن يأمل من الفنانين والمفكرين والأدباء وأهل العلم والمعرفة من العرب والمسلمين والهيئات الثقافية والمنظمات وكذلك الدول للقيام بحركة ما لفائدة القدس بشكل خاص وفلسطين بشكل عام. لا بد إذن من مشاركة مكثفة بالإنتاج والمشاركة في النقاشات والإحتفالات والتمويل وتحسيس الأجيال في مختلف البلدان العربية بقيمة هذه العملية. لا بد من مشاركة مكثفة فليست الوسائل المتاحة لذلك بمعدومة مع التقدم التكنولوجي الهائل لوسائل الإتصال. إن الحرب اليوم وكما يدرك الأغلبية هي حرب ثقافية بالأساس. هناك هجمة على الثقافة العربية والإسلامية ومحاولات لتجريد الحضارة العربية الإسلامية من تاريخها الكبير ونكران لاسهامات العرب والمسلمين في النهوض بالحضارة الإنسانية ومحاولة إلصاق صورة الإرهاب بهم كوسيلة لاستبزازهم والنيل من تاريخهم وطبعا قطع الطريق أمامهم وأمام المطالبة بحقوقهم وعلى رأسها حق الدولة الفلسطينية في الإستقلال وإقامة دولتها وعاصمتها القدس.. من بين محاولات الكيان الإسرائيلي منذ انتصابه على الأرض الفلسطينية القضاء على الهوية الفلسطينية وإظهار الشعب الفلسطيني على أنه بلا ثقافة وبلا هوية. وإذ ساهمت المقاومة بالسلاح في تكذيب محاولاته فإن الفلسطينيين بالأدب وبالشعر وبالسينما والمسرح قد حافظوا على هويتهم وتمكن شاعر مثل محمود درويش من تصدير القضية الفلسطينية والتعريف بشعبه على أنه شعب له تاريخ وله هوية. فإن كانت الأرض اليوم مستعمرة فإن الضمير الفلسطيني حي دون أن ننسى أن عذابات الشعب الفلسطيني كانت. ومنذ عقود ولادة لإنتاج أدبي وفني يجد هوى عند الناس ويحرك وجدان أصحاب الضمائر الحية في العالم. إن إنجاح اختيار القدس عاصمة ثقافية للعرب هذا العام اختيار لا بد من إنجاحه. ليس لنا خيار غير ذلك. ليس من قبيل التغني بالنفس وليس من قبيل المبالغة في الوصف عندما نقول أننا شرفنا بهذا الإختيار لأن القدس في وجداننا وفي قلوبنا تحتل مكانة أسمى من أن تطالها يد الاحتلال المتغطرس.