بقلم: عبد الرحمان مجيد الربيعي ما كنت أتمنى أبدا أن ينقضي العام المكرس للقدس عاصمة الثقافة العربية دون احتفالات ومهرجانات وندوات تليق بمكانة هذه المدينة العربية الإسلامية ذات القدسية بالنسبة لمسلمي العالم. وما أعنيه هنا أن تكون كل هذه الفعاليات فوق أرض القدس، في شوارعها، أمام أبوابها، في مراكزها الثقافية، فالمدينة كبيرة في الذاكرة والوجدان، انها (عروس عروبتنا) كما وصفها الشاعر مظفر النواب، فكيف لزفاف هذه العروس أن يمر بهذا الشكل؟ صحيح أن عواصم عربية عديدة ومعها عواصم عالمية قد احتفت بالقدس، وقدمت ندوات وبرامج وقصائد ومؤلفات عن القدس ومكانتها، لكنها كلها خارج القدس، بعيدا عنها، فالمناسبة موجهة إلى القدس وإلى المقدسيين وإلى الشعب العربي الفلسطيني كله المطالب بأن تكون القدس عاصمته بعد قيام دولته، كان هذا حلم الشهيد أبو عمار الذي تمنى أن يصلي فيها. ولكن اغتياله حال دون هذا. لكن حلم أبي عمار لم يغادر وجدان رفاق دربه الذين لا يرضون بغير القدس عاصمة لدولتهم. ان إسرائيل وخلال هذا العام مارست ارهابا لا حدود له من أجل اغتيال حلم الفلسطينيين وإلغاء هوية مدينتهم بهجوماتها المتواصلة على المسجد الأقصى وعلى الأحياء العربية وطرد سكانها ومالكيها وتسليمها إلى شراذم قطاع الطرق المستوردين من كل بقاع الدنيا تحت وهم الحلم الصهيوني بالسيطرة على القدس كلها وتغيير معالمها وانهاء كل ما يمثل انتماءها للحضارة العربية الاسلامية. وقد رأينا المقدسيين الأفذاذ وهم يدافعون عن مدينتهم، وعن المسجد الأقصى، يقاومون جنود إسرائيل ومستوطنيها المتوحشين الذين يهجمون كالذئاب الشرهة على مواطنين عزّل يذودون بصدورهم العارية وحجارتهم ببسالة وتفان لا حدود لهما. وكانوا دائما يصدون هذه الهجمات غير آبهين بعدم وجود تكافؤ بين الحجرة والرصاصة. يحصل هذا وإسرائيل تسوّد المزارع والأراضي وتضع يدها عليها ولا تسمح لمالكيها ممن تضمخ ترابها بدمهم ودم أجدادهم ومن دُفنت فيها رفات مئات السنين من النسل الفلسطيني العريق الذي ليس له أرض غير هذه الأرض ولا وطن غير هذا الوطن ولا أقصى غير هذا الأقصى. ووسط هذه الحالة كيف يمكن للمقدسيين أن يحتفلوا بمدينتهم عاصمة للثقافة العربية وهي الجديرة بهذا الاختيار وهذه المكانة؟ كيف يمارسون هذا الحق بعد هذا الاختيار الدال وذي المعنى الكبير؟ ولعلّ وضعا كهذا هو الذي حوّل جزءا كبيرا من الاحتفالات إلى ما يشبه الفعاليات السرية، أو هي هكذا فعلا بعد أن منعتهم سلطات الاحتلال من هذا الحق. وقد مرّ بي تقرير من احدى الاذاعات صبيحة يوم 31 من شهر أكتوبر المنصرم جاء فيه أن عددا من الفعاليات أقيمت بشكل سرّي وبمشاركة هولندية. أما كيف تم هذا؟ فيقول التقرير ان الجمهور كان يتجمع عند باب العمود أحد أبواب المدينة القديمة، ومن هناك يتسرب هذا الجمهور إلى الأماكن المحددة لتقديم الفعاليات، وهي أماكن آخر ما يمكن التفكير به لتكون فضاءات لفعاليات ثقافية، فكيف حولت الإرادة الجبارة والاصرار العجيب مخبزا، نعم، حولته إلى مكان لفعالية ثقافية مهما كان عدد الحضور؟ وفي الوقت نفسه تحوّل منزل إلى فضاء ثقافي، وذهب الناس مدفوعين بإيمانهم الواثق بمكانة مدينتهم، عاصمة دولتهم القادمة، وأنه لا يأس مع الحياة، ولا بدّ من المواصلة. ولولا الاحتلال البعيد عن أي أخلاقية والرافض لاحترام المواطنين وهم فوق أرضهم، وليسوا طارئين عليها وعلى التاريخ كما هم جنود إسرائيل ومستوطنيها الخليط من أجناس وأقوام وسحنات وملامح مختلفة لكانت الاحتفالات أثرى وأبهى. وعندما تصر السلطة الوطنية الفلسطينية على إيقاف المفاوضات وعدم استئنافها إلا بايقاف الاستيطان الذي يستحوذ على الأرض والزرع مثل سرطان شره فإن الحق معها في هذا. فكيف يتم التفاوض وبناء المستوطنات لم يتوقف؟ ومن المؤسف ان الادارة الأمريكية لا تراعي هذا الحق بل تطلب منهم أن يتفاوضوا مع الاسرائيليين على وقع الجرافات والمعاول؟ ان المقدسيين الذين لم يتراجع ايمانهم بمدينتهم وبمقدساتهم، والذين لا حدود لثباتهم ولا لصبرهم لا بدّ أن يصلوا لما يريدون ويعيدوا لمدينتهم الكريمة الدور والمكانة فهي جديرة بهما وهي جديرة أيضا أن تكون عاصمة للثقافة العربية لا لهذا العام فقط بل ولكل الأعوام القادمة أيضا.