ثمّة مجموعة من الوقائع التي سجلت خلال الفترة الأخيرة في علاقة بالمشهد الإعلامي الوطني.. ويمكن أن نستعرض في هذا السياق، بعضها اللافت للنظر: وقائع مثيرة.. * ما تردّد حول وجود «تعليمات» وجهت للملحقين الصحفيين، تحذرهم من تقديم أية معلومة للصحفيين إلا بناء على مكتوب رسمي، يتم رفعه إلى المسؤول الأول عن الوزارة أو الإدارة العامة أو المؤسّسة العمومية، للإجابة عنه أو اتخاذ القرار المناسب بشأنه... * قرار عمادة المحامين، منع مشاركة «أصحاب الزي الأسود» ضمن البرامج التلفزيونية، بل إنّ الأمر تجاوز ذلك إلى مستوى مطالبة العمادة بإحالة خمسة محامين على مجلس التأديب على خلفية هذه المشاركة، ما اعتبر في الأوساط الإعلامية والحقوقية مسّا من حق المحامين - إن لم يكن من واجبهم - في المشاركة والمساهمة في الشأن العام، وإنارة المواطن فيما يتعلق بالمعطيات القانونية اللازمة.. ورغم أنّ عميد المحامين، السيد البشير الصيد، شدد على أن العمادة لا تعني من وراء ذلك المسّ من حريّة الإعلام والتعبير، فإن قرارات من هذا القبيل، لا يمكن أن تفهم إلاّ في سياق التضييق على الإعلام والمعلومة اللذين هما حق دستوري لا يختلف حوله اثنان... * اللوم الذي وُجِّه إلى اللاعب السابق والعضو بالجامعة التونسية لكرة القدم، عبد الحميد الهرقال، بعد التصريحات التي أدلى بها إلى قناة «حنبعل» في إطار برنامج (بالمكشوف) حول المنتخب وبعض قرارات الجامعة تحديدا، حيث قررت الجامعة - تبعا لذلك - منع أي عضو من التصريح للاعلام إلاّ بعد ترخيص من رئيس الجامعة... * الفهم الخاطئ الذي انتهى إليه البعض بعد قراءتهم لخطاب رئيس الدولة في ذكرى عيد الاستقلال (يوم 20 مارس المنقضي) عندما شدّد على المعادلة المعروفة في كلّ أنحاء العالم، بضرورة عدم الخلط بين حرية التعبير، والمسّ من المنظمات المهنية والهياكل والأشخاص أو الإساءة إليها، وهو مبدأ أساسي من مبادئ الاعلام الحرّ لكنه المسؤول، «إعلام يصلح ولا يفسد، إعلام إنارة وليس إعلام إثارة»، وهي العبارة التي حاول البعض اتخاذها ذريعة لغلق «حنفية المعلومات» أمام الصحفيين، ومنع الكاميرات من تصوير بعض المشاهد الرياضية في بعض المباريات. لقد حرص هؤلاء على وضع هذه الفقرة من خطاب رئيس الدولة ضمن إطار «ويل للمصلين»، وحاولوا الدفع باتجاه عكسي تماما لمضمون ذلك الخطاب ورسالته الأساسية... وهو ما يفسر عودة رئيس الجمهورية مجددا (خلال اختتام أشغال اللجنة المركزية للتجمع) إلى التأكيد على حريّة الرأي والتعبير من جهة، والتشديد على أنّ «النقد النزيه الذي يستجدي الحقيقة، ويبحث عن المصلحة، مقبول ونحن نشجعه بما يكرّس حريّة الاعلام والمناخ الديمقراطي» من جهة ثانية... طرفان متنازعان... لا شك أنّ الاعلام في بلادنا أمام مرحلة دقيقة للغاية، يتنازعه فيها طرفان: طرف يدفع باتجاه تشكيل مشهد إعلامي يتماشى مع ما بلغته البلاد من تقدم اقتصادي وتطور اجتماعي ومستوى تعليمي وثقافي جيّد، وطرف ثان يشد حبل الاعلام إلى الخلف، وكلما خطا إعلامنا، أو حاول أن يبدّل خطوته، يعمد البعض إلى جذبه لكي يعود إلى المربّع الأول الذي انطلق منه، مربع «ليس في الإمكان أحسن ممّا كان» وأن «لا فائدة من فتح الملفات»، وهلمّ جرّا من التعبيرات والأمثال الشعبية التي يتم استحضارها بقوة وكثافة ضمن سياق ثقافي، تعوّد عليه هؤلاء منذ عقود، ولم يقدروا على الفكاك منه إلى الآن.. المشكل الأساسي الذي يبدو ماثلا أمامنا في هذه اللحظة التاريخية، وجود البعض ممن لم يستوعبوا التحولات الحاصلة في المشهد الإعلامي والثقافي والسياسي من حولنا، بل لم يستوعبوا هذا الزخم الإعلامي الكبير الذي تترجمه مئات الفضائيات، وملايين المواقع الالكترونية، وآلاف المدوّنات، بالإضافة إلى آلاف الصحف والمجلات والدوريات، ضمن أضخم انفجار إعلامي تشهده البشرية في تاريخها... ومعنى ذلك أنّ العالم - وبالتالي الدول والبلدان والمجتمعات - باتت بمثابة «الصندوق البلّوري» المكشوف من زواياه وجوانبه المختلفة. فمازال بيننا من يعتقد أنّ الصندوق ما يزال أسود اللون، وأنه يملك وحده مفتاحه الأساسي، وهو الذي يتحكّم في صدور هذه المعلومة أو منعها، وهو الذي بوسعه أن يحدّد توقيت صدور هذه المعلومة و«التكرّم» بها على الآخرين، لأنّها «منّة» منه إليهم... إنّنا - في هذه الحالة - إزاء ثقافة قديمة، تريد أن تصدّر إلينا أدوات وتقاليد وأساليب قديمة، لم تعد تواكب التطورات المتسارعة في الحقل الإعلامي، ناهيك عن مواجهتها أو محاولة منع الناس من الوصول إليها... إنّ المحاولات المتكررة للالتفاف على الإعلام ودوره، ستبوء بالفشل مهما كانت الذرائع والمسوّغات، سواء قيل لنا إنها محاولة لتنظيم الهياكل، أو الحفاظ على هيبة المنظمات والحرص على عدم الإساءة إليها، أو التعلل بأن بعض المعلومات ذات طابع سرّي، من قبيل ما يجري في الجامعات الرياضية أو في بعض المؤسسات العمومية أو الخاصّة.. لذلك سيبقى حق الناس في الإعلام.. وحق المجتمع في المعلومة.. وحق الصحفي، بل واجبه في الجري خلفها واللهث وراءها، من المقدمات الأساسية لأي إعلام في أية بقعة من العالم، والتي لا يمكن أن ينازعه فيها أحد.. أما الرأي والرأي الآخر، أما التعبيرات المختلفة في المجتمع، فتلك من مهمة الاعلام أن يعكسها ويقدمها للناس، لأنها بالأساس صورة عن البلاد ومدى تقدمها، وعن المجتمع ومدى تحضرّه... فهل بوسع البعض أن يحرمنا حقنا في إعلام الناس؟ وهل بإمكان أي كان أن يمنعنا من إظهار هذه الجوانب الحضارية المضيئة في نخبنا وطبقتنا السياسية وشعبنا؟ ** أحسب أن الرّغبة في التقدم والقدرة على ذلك، أكبر بكثير من هاجس الالتفات إلى الخلف...