تزامنا مع احتفال تونس بمرور خمسين سنة من الاستقلال، رأت جماعة مسرح فاميليا للانتاج مقاربة هذا الحدث مقاربة سياسية نقدية مباشرة، وذلك على عكس الاعمال المسرحية السابقة التي وإن كانت احيانا تصطدم بما هو سياسي، فإن ذلك التصادم كان دائما غير مباشر، خصوصا أن الحقل الاساسي لمشروع مسرح الثنائي فاضل الجعايبي وجليلة بكار هو العائلة وما يعتريها من علاقات مفككة تنطلق من أزمات ذاتية، تطال التنشئة الاجتماعية والنفسية ومنظومة القيم الثقافية وعلاقة الفرد بجسده وبالاخر المحيط به أو البعيد عنه. لذلك فإنه يمكن القول ان الحقل الذي اشتغلت عليه مسرحية "خمسون" أكثر اتساعا في هذه المرة بحكم تناولها المجتمع ككل وليس الاسرة كعينة مصغرة واهتم بعلاقة الدولة بالاسلام السياسي وبآليات مواجهتها، أكثر من التركيز على التفاصيل ذات البعد النفسي الاجتماعي. إنها مسرحية المساءلة الصارمة يعيشها أب مناضل يساري ينهار وأم حقوقية يسارية تبحث عن أسباب تحجب ابنتها وابتعادها عن قيم والديها، مع ما يقتضيه ذلك من انفتاح الذاكرة على مصراعيها لاستعادة شريط علاقات الدولة منذ حداثة استقلالها مع مختلف أشكال المعارضة التي ظهرت، وذلك من خلال استدعاء أفراد يساريين ونقابيين عاشوا قساوة تجربة الاختلاف مع السلطة في الستينيات والسبعينيات. وهو ما حتم على المسرحية الاهتمام بظاهرة التأزم ذات الاسباب السياسية بالخصوص، لاسيما وأن التطرف يفسره علم الاجتماع بأنه نتاج توتر أوضغط أو احباط. الايديولوجيا تنتج نقيضها وتبلغ الرمزية في مسرحية "خمسون" في هذا السياق تحديدا سقفا عاليا، يتمثل في تعمد كاتبة المسرحية أن تكون "أمل" من أبويين ماركسيين و"جودة" التي فجرت نفسها في بهو المعهد أستاذة فيزياء، أي أن الايديولوجيا تنتج نقيضها والتوجه العلمي العقلاني الرياضي غير محصن من تسرب الذهنية الانتحارية ذات المرجعية الغيبية. وتركز المسرحية في طرحها لهذه القضية على الشق السياسي والحرياتي من مشروع الدولة التونسية منذ تاريخ استقلالها 20 مارس 1956 الى اليوم، وإن كان نصيب الاسد من هذه الفترة ينصب على مرحلة الحكم البورقيبي التي أرست المشروع التحديثي دون أن تعير أي اهتمام للحداثة السياسية ومظاهرها المتمثلة في الديمقراطية والحريات العامة. من هذا المنطلق فإن المسرحية تعالج النصف الفارغ من الكأس والثغرات التي أدت الى حدوث التأزم وظهور التطرف والعنف. لذلك فإن مسرحية "خمسون" وإن كان عنوانها يدعي مساءلة أبعاد مشروع الدولة الوطنية التونسية طيلة خمسة عقود، فإن مضمونها لا يمس سوى ما هو سياسي وإن كان في تماس مع منظومات تحتية أخرى يمكن للمتلقي استخلاصها. ونلح على هذه الملاحظة لان مشروع الدولة التونسية تكمن قوته في الملف الاجتماعي والثقافي والتربوي ونقصد بذلك اصدار مجلة الاحوال الشخصية ذات البند الثوري المتمثل في منع تعدد الزوجات وأيضا في مجال التعليم إقرار مبدإ مجانية التعليم وإجباريته بالنسبة الى الجنسين والتوجه بقوة نحو سياسة الترشيد السكاني من خلال برامج تحديد النسل. طبعا ليس مطلوبا من العمل الفني أن يستعرض مواطن القوة والضعف معا، بل أن المقصود أن عنوان "خمسون" يخاتل المتلقي. كما يظهر بعد قدر من التمعن في الخطاب الباطني للمسرحية توافقا في النظرة مع الموقف الرسمي من التيار الاسلامي ومسألة الحجاب والخلاف يكمن في طريقة المواجهة، أي أنه هناك استنكار واضح لاليات الرقابة وإهانه النفس والجسد.ونفس هذه الاليات المستنكرة توظف من ناحية أخرى لتفسير ظهور التطرف والتشدد،الشئ الذي يفيد بأن رسالة المسرحية تدعو الى التنفيس أكثر،كي نظفر بأجساد غير رهينة وغير مختطفة بالمعنى القمعي. المباشراتية من جهة أخرى، فإن التركيز على هذه القضية طيلة ساعتين وأربعين دقيقة مدة المسرحية لتنتهي بعناق الام الماركسية لابنتها "أمل" بما يعنيه ذلك من مصالحة الافكار والاراء المختلفة، ليس سوى تعلة لخوض مسألة علاقة الدولة بالمعارضة ككل، وإن كانت للمعارضة من نوع الاسلام السياسي دلالة خاصة طيلة مشروع الدولة المستقلة، إذ ظهرت في بداية السبعينيات على إثر فشل تجربة التعاضد، الشئ الذي وضع سياسة الدولة ذات التوجهات العلمانية على المحك. دون أن ننسى أن الدولة آنذاك لم تتأخر في نفس الفترة عن توظيف الاسلام الراديكالي في مواجهتها لليسار ولاقصى اليسار.لذلك فإن مسرحية "خمسون"، هي دعوة لاقامة علاقة أكثر صحية مع المعارضة والتصالح مع المختلفين سياسيا وثقافيا وأيديولوجيا. وهي دعوة قدمها الفاضل الجعايبي وجليلة بكار وباقي طاقم الممثلين والفنيين بجرأة وشجاعة وبإيحاءات جمالية عالية فيما يتعلق بالسينوغرافيا. والنص الذي كتبته جليلة بكار لا يخلو من روحها الناقدة ومن السخرية السوداء ومن توظيف تجربتها وتجربة جيلها، وإن كان بالامكان إنتاج نص أكثر ابداعا بالمعنى الفني ذلك أن المباشراتية، قد طغت على كثير من مقاطع النص. بالاضافة الى المبالغة احيانا في اعتماد ظاهرة تكرار بعض الكلمات والجمل المفاتيح داخل النص. ولكن قيمة العمل بالنظر الى سياقه وجديته ومسؤوليته الفنية تجعل من كل نقيصة مسألة ثانوية امام شجاعة التعاطي مع الاشكاليات، علما بأن الطرح قابل جدا للنقاش بأكثر من مقاربة ومن حجة مضادة في خصوص طرح بعض النقاط الحساسة