سؤال يطرح نفسه في السنين الأخيرة بإلحاح شديد فيما يخص العلاقة بين المتخيل والواقع في ديارنا العربية الإسلامية، إن مغربا أو مشرقا، وكأن مصدرهما ليس واحدا... وهذا السؤال له وزره المعرفي في الميدان السمعي البصري، وخاصة لفترة رمضان حيث المنتوج الدرامي (بمعنى الروائي) يتضاعف إنتاجه وتكثر مقترحاته وتتعزز الحاجة إليه بحسب إدعاءات أصحاب القنوات الذين يشرعون لمهنتهم بابتداع حاجة شعبية إن لم تلبى تطير له رؤوس المسؤولين... والجديد أن الإنتاج الدرامي أصبح من متطلبات الحياة اليومية وكأن المواطن-المشاهد، إن لم يشرب جرعته اليومية من التوهان خارج واقعه، يشعر ببؤس حياته اليومية وبالفارق الشاسع بين ما يعيشه وما يحلم به... وحينما يعي الوعي بالمسافة الفارقة بين ما هو كائن وما كان له أن يكون، لا أحد بمقدوره تصور العواقب... لذا ترى القنوات التلفزية عربية وأوروبية، صينية وهندية، أمريكية وحتى من "الإينويت" تؤمن لمشاهديها حصصهم من المتخيل... ونحن، في العالم العربي بصفة عامة وفي تونس بصفة خاصة، لا نختلف في المبدإ عن سائر مخلوقات الله الناطقة في ميلنا للمتخيل والرغبة في التشيع له والتشبع به... إلا أننا نختلف نوعا ما عنهم في منحانا الإجرامي المعلن نحوه... الضفة الأخرى من الوعي في العشرية الأخيرة وفي نفي مجاهر به لأمثولة المغارة لأفلاطون حول الواقع وانعكاسه، طرح سؤال حول ما مدى الترابط المفترض بين المتخيل والواقع... فنحن نرغب في العالم المتخيل لأننا نشرب منه سرا في حوار مع ذاتنا الذاتية من جهة ومن جهة أخرى نجاهر بإخضاعه للواقع في انصهار منا لرؤى المجموعة الاجتماعية التي ننتمي إليها... فبغض الطرف عن جدية وفنية ومصداقية المقترح الروائي التلفزي التونسي في القنوات الأربعة، عمومية وخاصة، وفي الفترة الرمضانية، نلاحظ هنا وهناك ومن طرف ممثلين عن فئات شعبية مختلفة سواء عبر الصحف أو آراء مقاهي ل"مهني المهنة" رغبة جامحة في رفض بعض المسلسلات التونسية، أو تحديدا في رفض العناوين الثلاثة المقترحة حاليا على "تونس7" و"حنبعل" و"تونس 21" دون "نسمة" التي لم تدخل حلبة الإنتاج الدرامي المحلي واكتفت باقتناء مسلسلي "باب الحارة 4" و"هدوء نسبي" السوريين، وإن كان الثاني من أخراج التونسي شوقي الماجري... هذه المسلسلات حاليا هي "مكتوب" لسامي الفهري/الطاهر الفازع (تونس7)، "نجوم الليل" لبديع بلعيد/سامية عمامي عن فكرة وتصور لمهدي نصرة (حنبعل) و"عاشق السراب" لحبيب المسلماني/علي اللواتي (تونس21)... والرفض هنا لا علاقة له بالمقولات السردية والفنية والتمثيلية والإنتاجية والإخراجية أو حتى التماثلية لهذه المسلسلات علما وأن بهذه الأعمال من الهفوات والمغالطات والرداءات ما يجعل نقدها بصرامة وظيفة تطهيرية... الرفض يأتي من الضفة الأخرى للوعي الفردي... تقول هذه الآراء وهذه المواقف، كصدى لموجة تراجعية في جميع المجتمعات العربية بما فيها مجتمعنا، أنه من غير المقبول أن تبث هذه القنوات في شهر الصيام حالات سكر وغزل وخيانة وسرقة ومتاجرة ومشاجرة ومخادعة إلى غير ذلك من الجانب الأسود للإنسان... حقيقة المنكر التلفزي وبمعزل عما يجب بثه أو لا من البرامج الدرامية من الوجهة الدينية البحتة في شهر رمضان، هذه الآراء وهذه المواقف ما كان لها أن تكون لولا تبلد حاسة النقد، ما كان لها أن تكون في فترة سابقة من تطور مجتمعنا حيث ثقافة الصورة كانت منتشرة وإن لم تكن بالمستوى الاستهلاكي اليوم... كانت جميع الأفلام معروضة على شاشات القاعات التونسية إلا تلك التي تنشر الإباحية وتعارض السياسة القائمة. وحتى فيما يخص هذه الأخيرة، عرضت أفلام لا تتماشى والسياسة الخارجية لبلادنا، ولم تتوقف الأرض حينها عن الدوران حول نفسها... واليوم، مع نهاية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين ورغم حرية المشاهدة التي يتمتع بها أكثر من ثمانين في المائة من مليوني العائلات التونسية المالكة لأكثر من جهاز تلفزي، من غير المفهوم أن نجهل قاعدة بسيطة، قاعدة تفرق بين زمن الأحداث الدرامية وزمن البث الذي به المتلقي... أن نعارض سلوك شخصيات درامية بما يجب ان يكون في الحياة اليومية في الفترة الرمضانية، فإننا، لا قدر الله، سنخضع في المستقبل كل شخصية درامية إلى بطاقة تعريف وطنية وعقائدية افتراضية... هذا المنحى المنتشر بسرعة بين جميع الفئات الاجتماعية ببلادنا والقائم على أساس أن الصورة حقيقة ملموسة وجب إخضاعها إلى واقع غير واقع تطورها الدرامي هو في النهاية واقع تراجعي... إن سلوك المشاهد التونسي (والعربي) يذكرني بما ورد في كتب رحالة علم الأعراق حينما يرى فرد من القبائل البدائية صورة لشخص ما، فإنه سرعان ما يمرر يده عليها بحثا عن حقيقتها "الملموسة... وذهوله أمام سطحية الصورة هو الذهول ذاته الذي تملك بالمشاهدين الأمريكيين في بداية القرن الماضي حينما رأوا في فيلم من إخراج " ديفيد غريفيت" (1876/1948) لقطة مكبرة ليد ممسكة بمسدس فوهته موجهة نحوهم... فهرعوا خارج قاعة العرض خوفا. فهل أصبح مشاهدنا يخاف أن يسأل لماذا رأى منكرا (افتراضيا) ولم ينه عنه؟ هذا، ودون أن يكف عن المطالبة بالإنتاج الدرامي، تراه يعمل على إخضاعه إلى واقع هو وحده معياره... صدق من قال: "لا نحبك ولا نرضى عليك"..