أكاد أجزم، دون أن أدّعي في الدّين علما، أنّ من أكبر فضائل الإسلام، أنّه لم يجعل الله فيه وصيّا على تعاليمه، يحرّم ما أحلّ، ويبيح ما منع. غير أن البعض ممن امتهنوا الفتاوى وتجارة ما يجوز وما لا يجوز، استكثروا على الدّين فضائله، حتى أنّهم نصّبوا أنفسهم أوصياء عليه فغرقت الفضائيات تحت وابل فتاواهم وتصريحاتهم التكفيريّة. بعضهم تخصّص في تعدّد النسّاء مبيحا الزواج بتسع؟!! والآخر دخل سوق الإثارة، بفتوى تلزم الموظّفة بإرضاع زميلها ليصبح أخاها من الرضاعة؟ وثالث حرّم على المرأة الاتّكاء على الحائط، لأنّ الحائط... ذكر؟!!.. والأدب لا يسمح بذكر المزيد. وإن كانت كلّ هذه الفتاوى على طرافة بعضها وخطورة بعضها الآخر تختلف باختلاف أهداف مروّجيها، وأحيانا باختلاف طول لحاهم، فإنّها تشترك في انبنائها على مبدإ الوصاية على الإسلام والمسلمين، والمزايدة على أحكام الدّين في السوق العالمية للفتوى والتكفير. وليس غريبا أن يجد محترفو التكفير في المجتمعات الحداثية، مجالا خصبا لدعواتهم، فيجهرون بها بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. بعض هؤلاء المنتصبين للحساب الخاص في مجال الفتاوى، والدّين السياسي، وجد في قرار تونس تأجيل الحج اعتمادا على مبدإ شرعي يقدّم درء المفسدة على جلب المصلحة، فرصة ليعرض خدماته على إحدى الفضائيات وليعسّر ما يسّر الله لعباده. والغريب أنّ من يشكّك في استناد قرار تونس إلى نصّ ديني (في جهل واضح بما صرّح به مفتي الجمهورية، وعديد الرموز الدينيّة وعلى رأسها أعضاء المجلس الإسلامي الأعلى) لم يستند بدوره إلاّ لأمّهات أفكاره ولاجتهاده الماورابحري، ليناقش قرار تأجيل الحج، ويصفه ب«القرار الإداري». أو ليست الإدارة بمفهومها الذي قصده، مسؤولة عن هذا القرار بمقتضى مسؤولية الراعي عن الرعيّة؟ أو ليس الحفاظ على أرواح الشعب واجبا شرعيا على «الإدارة»؟ كيف غاب عن «سِيدي الشّيخ» نصّ الآية: «فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي» والإحصار يعني لغويا أي مانع موضوعي، سيما المرض إذا ثبت استفحاله أو خُشي. وكيف فاته أن الحرص على الفريضة مقرون بشرط الاستطاعة، وغياب الموانع؟ ومع حساسية المسألة الدينيّة فإنّ ما جنح إليه الشيخ قد جانب الصّواب، إذا ما استندنا إلى الثقاة من أهل الذكر والذين يقرّون بأنّ المشقّة تجلب التيسير، وبأن ما من شيء أخطر على الدّين وأهله، من الغلوّ في الدّين. وإذا كانت بعض المنابر التلفزية قد يسّرت مدارجها حصريا للمزايدين على الدّين، وأصحاب فتاوى الجنة والنار، فهنيئا لهم بها، وهنيئا لها بهم، غير أنّ الخوض في شؤون الإسلام وأهله لا يوكل إلاّ لأهل الذكر الذين يعتدّ بآرائهم ويؤخذ بها، وليس لمحترفي «الفتاوى تحت الطلب».