هل يمكن أن تعشق رواية كما تعشق امرأة؟ نعم، يجيب من أغوته واحدة من تلك الحكايات النّافرة التي تشبه أنثى لا نقوى إلا حبّها. نعم، بلا إجابة تفضح أسرارنا. نعم، بلا كلمات أو حتى همهمة، لتظلّ الفتنة في أعماقنا، نعمل على كتمانها ونسعى إلى إدامة لذائذها. اعترف الكثير من الكتّاب في بعض سيرهم أو في منعطفات كتبهم أو في نتف من محاوراتهم، بأنّهم مدينون في كلّ ما كتبوا لرواية بعينها، رواية أيقظت في بعضهم جذوة الكتابة و غيّرت من المسار الأدبي لبعضهم وفتنت رواية أخرى كاتبا فصار لا يقدر على الكتابة إلا بعد أن يقرأ منها بعض الصفحات، بل ذهب بعضهم إلى القول بأنه اشترى نفس الرواية عشرات المرات ولم يترك طبعة من طبعاتها إلاّ واقتناها. يقول «خورخي لويس برخص» إن اكتشافه لألف ليلة وليلة كان بمثابة اكتشاف الجنة الضائعة. وقد كان أمين المكتبة الوطنية «لبيونس أيرس»، ورث عمله عن أبيه الذي يعتبر أول مترجم لحكايات شهرزاد إلى الاسبانية. فرغم عشرات آلاف الكتب التي تضمّها هذه المكتبة العملاقة إلا أن برخص كان يرى في ألف ليلة وليلة عشيقته الأبدية التي لم يشف من حبّها طوال عمره. يذكر «ماريو برغاس يوسا» أن عشق الروايات هو الذي دفعه إلى مواصلة الكتابة وأنه في غياب رواية جديدة يحبها لا يعمل... قال ذلك عن «لوليتا» ل«نابوكوف». كأن الحب يظل المحرك الأساسي للإبداع، وكأن هذا الحب الكبير لرواية بعينها هو ما يرسم أفقًا للكاتب بأن يكتب مثلها. وقد يكتب أحسن منها. رواية «العطر» ل«باتريك سوسكند»، فتنت القراء في جميع أنحاء العالم وقد ترجمت إلى اللغة العربية وما تزال تلقى الإقبال الكبير عليها منذ نشرها سنة 1985 بشكل ملفت للنظر، هذه الرواية كانت ثمرة من ثمرات عشق الكاتب لقصة الجميلة والوحش التي أينعت في ذهنه فكرة «جان باتيست قرينوي»، هذا الطفل اليتيم الذي خلفته أمه لعيوبه الجسدية والذي لم يكن له من رائحة تذكر ولكنه كان يمتلك حاسة شم عجيبة دفعته لقتل فتاة ليأخذ منها رائحتها. هي نفس حكاية الجميلة والوحش ولكن كما يقول سوسكند؛ الحكاية الجميلة تعطي حكاية جميلة. ثمة من الكتّاب العرب من هام عشقا برواية من الروايات وكتب منها وعنها وثمة من ظل حبيسًا لعشقه فإذا به يتمثل معشوقه تمثلاً لا فكاك منه فلم يستطع رغم خبرته بالكتابة وبعالمها ورغم قدرته اللغوية الكبيرة أن يخلع عنه حب تلك الرواية ويتحرر من سلطانها، أو لنقل إنه لم ينجح في خيانة معشوقه رغم أن هذه الخيانة هي سبيله الأمثل للتحرر والانعتاق والإبداع، ذاك الإبداع الذي يصنع به ذاته ككاتب. يمكن أن نذكر في هذا الباب أمثلة كثيرة من الروايات التي كانت خليلات كتاب غير كتابها الأصليين، ومنها عندنا مثلا «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ، و«الأرض» لعبد الرحمان الشرقاوي، و«موسم الهجرة إلى الشمال» للطيّب صالح، و«الياطر» لحنا مينه، و«المتشائل» لإميل حبيبي، و«شرق المتوسط» لعبد الرحمان منيف، و«ليلة القدر» للطاهر بن جلون، و«الزيني بركات» للغيطاني، و«فوضى الحواس» لأحلام مستغانمي، و«حدّث أبو هريرة قال» و«السد» للمسعدي وغيرها... يبدو أن عشق رواية ما أصعب وأقسى من عشق امرأة. وعلى الكاتب أن يحذر هذا العشق لأنه يسجنه في الغالب داخله و يغمض عينيه عما في الروايات الأخرى من جمال وفتنة. إنه يمنعه من أجمل فعل إنساني، ومن أجمل فعل إبداعي: الخيانة.