كانت المشاركة السورية في الدورة الثانية من تظاهرة «موسيقات» في مستوى ما كنا ننتظره: لبانة القنطار التي أحيت سهرة الثلاثاء في قصر النجمة الزهراء في إطار هذه التظاهرة جددت التأكيد على أن أرض الشام لا تساوم من حيث الفن والموسيقى تحديدا هي أرض ما فتئت تعزز ساحة الفن العربي بأصوات جميلة ومتميزة. ونحبذ في هذا السياق ألا نذكر الاسماء لانها كثيرة ونخشى أن نظلم من بينها الاهم من جهة ولاننا إن عددنا هذه الاسماء فإننا لا نفعل سوى أن نكرر ما هو من قبيل المشاع والمعلوم بين الجماهير من جهة ثانية. ثم إن لبانة القنطار كانت في مستوى ما بلغنا حولها من أخبار فقد اختيرت سنة 2000 ضمن أفضل خمس مغنيات أوبيرا في العالم في احدى المسابقات الهامة المنظمة بأحد البلدان الاوروبية. وفي الحقيقة حتى وإن غابت هذه المعلومة فإننا لا نعتقد أن الجمهور سيصعب عليه التفطن إلى مقدرة هذه الفنانة وامكانياتها الصوتية. لبانة القنطار كانت تغني أصعب القصائد براحة ملفتة للانتباه وبيسر لا يصله إلا من تمكن من الادوات اللازمة لاداء القصائد والموشحات. وقد درست لبانة القنطار الموسيقى وخاصة الغناء الاوبيرالي بالمعهد العالي للموسيقى بدمشق ودعمت شهاداتها العلمية بالدراسة في الخارج وتحديدا بهولاندا ولندن كما اكتسبت خبرة في الغناء الاوبرالي من خلال وقوفها بمسارح كبرى بأوروبا والولايات المتحدة. كانت لبانة القنطار مرفوقة في سهرة الثلاثاء بفرقة الغناء العربي بدمشق التي أسستها. وتتخصص هذه الفرقة في اداء الاغنية الكلاسيكية العربية الشرقية وهي تتكون من عناصر جلها خريجة المعهد العالي للموسيقى بسوريا.. ما قدمته من قصائد وأغان متنوعة معروفة ومتداولة خاصة وأن البعض منها قد تم تخليده بأصوات على غرار محمد عبد الوهاب وفيروز واسمهان وصباح فخري وغيرهم ولكنها تؤدي بصوت جميل ومؤثر إلى درجة كبيرة. تملك هذه الفنانة موهبة حقيقية فصوتها استثنائي. صوت مطواع إذ يكون ناعما ومخمليا كما يكون قويا وجهوريا يختلف باختلاف اللحن والطبقات ولكنها في كل الحالات تقنع فهي فنانة من طراز خاص. هي صاحبة حنجرة ذهبية وتذكرنا بتلك الاصوات العربية التي هي عبارة عن موسيقى في حد ذاتها. لماذا نتوقف مطولا عند خصال هذه الفنانة الصوتية ؟ إن الامر يعود لسبب نخاله بات معروفا. فالقاعدة في المجال الموسيقي صارت استثناء. ففي عصرنا هذا لم تعد الحنجرة العذبة والصوت الشجي من الشروط الاساسية لاقتحام عالم الغناء وبالتالي فقد صرنا عندما نقع على صوت جميل يكون ذلك بمثابة الحدث. وقد كانت سهرة لبانة القنطار حدثا ليس فقط من ناحية المحتوى وإنما من ناحية طريقة الاداء أيضا. إذ لا تسل عن فعل الاصوات الجميلة في الجمهور فما بالك إذا كان الامر يتعلق بأجود القصائد المغناة وأعذب الالحان. تفاعل الجمهور مع العرض بطريقته الخاصة إذ لا بد من التذكير بان جمهور النجمة الزهراء جمهور من طراز خاص ويبدو غالبا محترزا في ردود أفعاله كما أن الفضاء له طقوسه الخاصة التي توفر ظروفا أفضل للسماع خلافا لما نجده خلال التظاهرات الجماهيرية. استمع إذن جمهور النجمة الزهراء إلى العرض بانتباه كبير وصفق لكل الفقرات. كان العرض مشتركا مع الفنانة ليندا البيطار التي تم تقديمها على أنها تلميذة لبانة القنطار. ومن الواضح أن لبانة القنطار لا تكتفي باستعادة التراث وربما تطويره وتقديمه في شكل حديث من خلال توظيف مختلف الالات الغربية تأكيدا منها على امكانية توزيع الاغنية العربية الكلاسيكية توزيعا أوركاستراليا دون أن تفقد على ما يبدو خصوصياتها وإنما تسعى وهي أستاذة الغناء إلى حث الطلبة على خوض المغامرة والسير على منوالها. لم تؤد الفنانتان اغنية مشتركة (اه يا جميل يا مسهرني) إلا مع نهاية العرض في حين تداولتا على الركح كامل السهرة. لم تطل هذه السهرة طويلا (حوالي ساعة ونصف من الزمن) لكنها أرضت الجمهور بما فيه الكفاية الشيء الذي لم يدفع هذا الجمهور للمطالبة بالمزيد كما يحدث عادة في المهرجانات. أغان ومووايل ومقطوعات موسيقية اضافة الى بعض الارتجالات المتميزة خاصة منها تلك التقاسيم على الة القانون بامضاء توفيق مرخان كانت كافية لتأثيث سهرة دسمة لكنها غير متخمة خاصة وأن الحال رمضان. ظاهريا يكاد يحصل الاتفاق على أن الموجات الجديدة المسيطرة على الاغنية العربية التي أفقرتها من روحها قد أنهت عصر الطرب. ولكننا في كل مرة نتفطن على غرار ما يحدث عادة للمغرمين بالسفر تطول السفرة وتجدهم بعد طول تجوال وقد اشتد حنينهم إلى الاوطان وتتوقد لديهم الرغبة في لقاء الاهل والاحبة. هكذا يحدث مع الجمهور العربي ينساقون مع التيارات الحديثة للاغنية لكن يكفي أن تصل إلى أسماعهم صدى أغنية من الماضي الرابض في الاعماق حتى يشتد بهم الشوق إلى زمن ربما كان يشبهنا أكثر من اليوم. للتذكير فإن تظاهرة «موسيقات» التي تقام للسنة الثانية على التوالي بمركز الموسيقى العربية والمتوسطية «النجمة الزهراء» ويشترك المركز في تنظيمها مع مؤسسة سكوب لتنظيم العروض كانت قد انطلقت في سهرة 19 سبتمبر الجاري لتتواصل إلى 6 اكتوبر القادم. وهي تظاهرة موسيقية مفتوحة لمختلف التعابير الموسيقية التقليدية أو المستلهمة من التراث من تونس والدول العربية والخارج.