الجلوس الى الفنان المسرحي القدير الاستاذ محمد ادريس بوصفه مديرا للمسرح الوطني وقبل ذلك وبعده المخرج والممثل الذي يعد أحد رموز الحركة المسرحية الحديثة في تونس هو من جهة جلوس الى «ذاكرة» مسرحية وطنية ثرية وجريئة تختزن «معطيات» وحقائق هامة عن طبيعة التحولات التي شهدتها ساحة الابداع المسرحي في تونس منذ بداية سبعينات القرن المنقضي بما اهّل هذه الحركة المسرحية لان تصبح بشهادة النقاد واحدة من اهم وأجرأ الحركات المسرحية العربية واكثرها تطورا على المستوى الفني.. وهو من ناحية اخرى جلوس الى فنان مسرحي وانسان مثقف على قدر كبير لا فقط من النبوغ وسعة الاطلاع بل وايضا من التخلق والتواضع الرفيع. مع هذا العَلَم (بفتح العين واللام) التونسي في عالم المسرح كان لنا هذا اللقاء الذي تحدّث فيه من بين ما تحدث عن رهانه وحلمه الكبير الذي اوقف عليه ولا يزال كل جهده المسرحي منذ البداية والمتمثل اساسا في ان تصبح المؤسسة المسرحية في بلادنا بفضاءاتها وبناها التحتية مؤسسة مركزية في النسيج العمراني والاجتماعي شأنها في ذلك شأن المؤسسة الصحية والتربوية وغيرها داخل المجتمع. *** * بماذا كنت «تحلم» اساسا عندما عزمت على ان تكون رجل مسرح ولا شيء غير ذلك؟ ** كنت أحلم بشيئين اساسيين: ان يكون للمسرح في بلادنا مؤسسات ذات استقلالية ادارية وذات بنى تحتية ملائمة تساعد العاملين فيها على المضي قدما على درب الابداع الحر والمسؤولية الكاملة. والشيء الثاني ان يكون المسرح في جانب منه عنوانا من عناوين رفاه العيش والامن والثقة والحرية داخل المجتمع التونسي.. في هذا الاطار كانت المبادرة مع مجموعة من الزملاء بتأسيس فرقة المسرح الجديد بتاريخ سنة 1976.. وفي هذا الاطار ايضا تنزلت لاحقا مساعي عديد المسرحيين ببعث فضاءات خاصة: فضاء «التياترو» (سنة 1987) ثم فضاء «الحمراء» ثم فضاء «مدار» وفضاء «نجمة الشمال» واخيرا وليس آخرا فضاء «دار ابن عبد الله». شخصيا كنتُ مؤمنا شديد الايمان بضرورة مثل هذه المبادرات التأسيسية ولا أزال اراهن عليها ليقيني بضرورة ان تكون هناك فضاءات مسرحية ذات استقلالية ادارية قائمة داخل النسيج العمراني في المدن.. باعتبار ان الفضاء (القاعة) جزء اساسي في عملية استقرار العملية الابداعية المسرحية وتكريسها كحاجة وضرورة مجتمعية داخل النسيج العمراني شأنها في ذلك شأن الصيدلية والمؤسسة الصحية والتعليمية والصناعية وغيرها.. * ومتى بدأ «يُخيّل» اليك فعلا انك بدأت تقترب من تحقيق «حلمك»؟ ** عندما تم الاعلان عن انشاء المسرح الوطني سنة 1983 شعرت بان «شيئا» ما قد بدأ يلوح في الافق.. فمجرد الاعلان عن انشاء المسرح الوطني معناه ظاهريا على الاقل ان مؤسسة مرجعية معلومة قد بعثت للوجود.. وهذا في حد ذاته خطوة مهمة.. ولكن هالني فيما بعد كمتابع رؤية هذا الانجاز المهم وكأنه في طريقه الى «الاندثار» تدريجيا ذلك ان المسرح الوطني عندما بعث لم يكن مهيكلا اداريا كما انه لم يكن يملك لا قاعة عروض (مسرح) خاصة به وكان اداريا نزيل احدى دور الثقافة!!! لذلك، باشرنا بمجرد ان استلمنا مسؤولية ادارته بتاريخ سنة 1988 بانجاز خطة اصلاح جوهرية تساعد على ضمان عامل الاستمرار لهذه المؤسسة الثقافية المرجعية وهي خطة تتمثل في وضع قانون اساسي له وكذلك وضع رؤية فنية واضحة لرسالته الثقافية والابداعية وتوفير بنى تحتية مكملة (مسرح ومقر اداري..). فتطوير البنية التحتية وتوفير مستلزماتها يلعب دورا اساسيا في تطوير الممارسة المسرحية والابداعية. وقد تمكنا بفضل دعم شخصي وخاص من لدن سيادة رئيس الجمهورية من الحصول على قاعة الفن الرابع منذ سنة 1992 وتحولت الى قاعة عروض مسرحية خاصة بالمسرح الوطني وبمواصفات تقنية عالية.. كذلك اصبح المسرح الوطني التونسي مؤسسة لها قانونها الاساسي وهي منذ سنة 1988 تجمع كل المبدعين المسرحيين. * هناك من يتحدث عن ازمة مسارح يعيشها المسرح التونسي اليوم كيف ترى الامر؟ ** الذي يلفت انتباهي شخصيا هو هذا التناسل اللامنطقي والازدياد المهول في اعداد الفرق المسرحية.. ذلك انه يوجد اليوم حوالي 150 فرقة.. وبالمقابل لم يقع بعث ولا انشاء فضاء عرض واحد جديد بمواصفات فنية وتقنية مقبولة.. طبعا، انا هنا لا أطالب بعملية «تحديد نسل» للفرق المسرحية وتناسلها ولكنني أرى ان المجموعة الوطنية بامكانياتها الحالية وبفائض التجربة التونسية وبالسند والدعم الكبير للدولة الذي لا يكاد يكون مشروطا قادرة على ان تغير الوضع المتأزم في هذا المجال الى وضع مزدهر.. فلنا مثلا فضاءات ذات خصائص معينة (مخازن ومعالم تاريخية) ودور ثقافة غير موظفة على الوجه الصحيح.. ومن خلال وضع خطة مدروسة لاستغلال مثل هذه الفضاءات يمكننا تجاوز ما اصبح يعرف بازمة «المسارح» هذه.. في تونس لنا تجربة مسرحية رائدة ومتطورة فنيا ونحن مطالبون كمسرحيين بجعل المسرح في بلادنا عنوانا من عناوين رفاه العيش والامن والثقة والحرية.. ايضا، في بلادنا وفي عهد الرئيس بن علي نحن نشتغل راهنا على مشاريع ثقافية تأسيسية كبرى مثل مدينة الثقافة والمركز الوطني لفنون السيرك والفرجة.. وهي مشاريع عملاقة وطموحة لم تبخل بها الدولة على المبدعين الذين يبقى مطلوبا منهم ان يتركوا جانبا ثقافة التواكل وان يشمروا على ساعد الجد وان يوظفوا مهاراتهم ونبوغهم ومعارفهم في مختلف مجالات الابداع من اجل صياغة انتاجات فنية وفرجوية راقية وتجنب الخصومات الزائفة بين المبدعين واهل المهنة الواحدة. واذا اردنا ان نتحدث عن القطاع المسرحي خصوصا فان قطاعنا في حاجة الى التزام والى شعور بالمسؤولية وليس الى مهاترات و«معارك» وهمية من منطلق حسابات خاطئة ومتخلفة. شخصيا ادعو الى بعث «هيكل» يكون بمثابة عمادة للمسرحيين تتولى وضع ميثاق للمهنة وشروط ومقاييس الانتماء اليها. * هل ستفتتحون الدورة الجديدة من مهرجان الحمامات الدولي؟ ** نعم، سنفتتح دورة هذا الصيف من مهرجان الحمامات الدولي بمسرحية «اوتيللو نجمة نهار» فهذه المسرحية وبشهادة النقاد هي عمل مسرحي يبرز خصوصية الابداع المتقدم للمسرح في تونس. * بماذا تريد ان تختم؟.. ** أريد التأكيد مجددا على ان المسرح الوطني ليس فقط مؤسسة للانتاج بل هو أداة للتقدم بالعملية الابداعية كفن وتقنيات ووسائل.. والمسرح الوطني مدرسة مدعمة بنشاط تكويني وتطبيقي ومرجعي وذلك بفضل بعث المدرسة التطبيقية لمهن وفنون الفرجة التي أذن رئيس الدولة شخصيا باحداثها سنة 1993 والتي من انجازاتها ظهور «الباليه الوطني» بما يرمز اليه من دعم لفن الرقص وجعله عنصرا اساسيا في العملية الابداعية المسرحية وكذلك احداث المدرسة الوطنية لفنون السيرك التي تأسست في صلب المسرح الوطني سنة 2003 ولدينا برامج طموحة باتجاه احداث نواة للمسرح الغنائي وقد قمنا بمحاولات في هذا الصدد وآخرها وظفت مجموعة من خريجي قسم التمثيل الغنائي بالمعهد الاعلى للموسيقى بسوسة.. نحن نراهن على التأسيس وهو رهان جدي وسليم واستراتيجي لصالح المهنة والعملية الابداعية بكل مكوناتها الفرجوية.