كما يتكرر في الغالب مع كل المبادرات تكون الفكرة في البدء مترددة وأحيانا غير واثقة. لكن سرعان ما نتبين إن كان للمشروع نفس طويل أم لا. 13 سنة مضت منذ تأسيس تظاهرة أكتوبر الموسيقي. لم يحافظ المهرجان فقط على انتظامه بل صار تقليدا لدى عشاق الموسيقى في بلادنا فتراهم يتحولون كل ليلة منذ إشارة الانطلاق إلى ربوة بيرصة حيث ينتصب فضاء الأكروبوليوم. في هذا المكان الذي إن تجاهلت الإحساس برهبة المقدس التي تغمرك منذ أن تطأه قدماك فإنك لن تقف غير مباليا حتما إزاء جمالية الفضاء وذلك الزخرف الذي يميزه, هناك تنتظم سهرات أكتوبر الموسيقي الذي شهد دورته الأولى سنة 1995. يملك صاحب الفكرة السيد مصطفى العقبي الذي يواصل ادارة مشروعه رؤية خاصة جدا حول العمل الثقافي فأي تظاهرة ثقافية لا يمكن لها أن تكون من منظوره أكثر من لحظة ممتعة وسعيدة يعيشها الجمهور. وبالنسبة له فإنه لا يعتقد أن مشاهير الفن فقط بإمكانهم أن يمنحوا الجمهور مثل هذه اللحظات. وهذا ما يفسر عدم سعيه إلى استقطاب الأسماء العالمية التي يسعى لها غالبا منظمو المهرجانات لتسويق منتوجهم ومن هذا المنطلق كان لنا حديث مع السيد مصطفى العقبي في مكتبه بالأكروبوليوم. * بدأت تظاهرة أكتوبر الموسيقي تحتل موقعها في الساحة الثقافية التونسية، ومع تواتر الدورات نخال أن انتظارات الجمهور تتطور وأحكامهم ربما تصبح أصعب فهل تأخذون هذا في الإعتبار عند إعداد البرمجة؟ - من حسن الحظ أن واكب جمهور هام من حيث العدد ومن حيث الشغف بالموسيقى الراقية أكتوبر الموسيقي منذ انطلاقته. هذا الجمهور ظل وفيا للتظاهرة كما توسعت قاعدة المهرجان الجماهيرية في الآن نفسه. لكن قبل الإجابة عن سؤال البرمجة يجب التذكير بالأهداف التي من أجلها أسسنا المهرجان. فهو قبل كل شيئ مناسبة للتعريف بالموسيقى الكلاسيكية. هذا الفضاء الثقافي هو متنفس لنوعية خاصة من الجمهور التي قد لا تجد ما تحتاجه في بقية المهرجانات الأخرى. بخصوص البرمجة راعينا كالعادة رغبة الجمهور في الإكتشاف، اكتشاف ألوان موسيقية ربما لا تكون متداولة بالقدر الكافي في البلاد. حاولنا كذلك التنويع من خلال الإنفتاح على دول أخرى بخلاف الدول المعتادة خاصة من أوروبا. فالموسيقى الكلاسيكية تبقى إرثا عالميا يمارس في مختلف البقاع من العالم. * يعول أكتوبر الموسيقي على ما يبدو على نوعية خاصة من الجمهور وفية للمهرجان وهو ما لا يدفعكم إلى السعي لاستقطاب أسماء عالمية للترويج له؟ - لا نسعى لاستقطاب الأسماء العالمية لأكثر من سبب. أولا ليس من السهل التعاقد مع نجم له روزنامة من العروض تمتد أحيانا على عشر سنوات فهذا يتطلب امكانيات مادية ضخمة لا قدرة لنا عليها. ثانيا لا أعتقد أنه لا بد من هؤلاء النجوم كي تتكون لدينا ثقافة موسيقية، فالثقافة لا تبنى من خلال النجوم تماما كما يحدث مع الفنون التشكيلية، فهل يمكن أن تتذوق لوحة لبيكاسو إن كنت لا تفقه في الفنون التشكيلية شيئا؟. وأعتقد أن قيمة العرض لا تحددها نجومية صاحبه والعرض الجيد ينتهي بفرض نفسه في النهاية. ثالثا إننا لا نقترح على جمهور يقض كجمهور أكتوبر الموسيقي عروضا كيفما اتفق. إن أغلب العروض تعكس الحركة الموسيقية الموجودة في البلدان المشاركة في المهرجان. ولا يمكن أن تسعى الهياكل المعنية إلى أن يمثلها أطراف قد لا يكونون أوفياء للتطور الذي تشهده الحركة الموسيقية في تلك البلدان وهو ما يفسر خروج الجمهور بعد كل عرض تقريبا وعلامات الرضا بادية عليهم. مقابل ذلك أحب أن أذكر أن المهرجان ككل بالنسبة لي يقاس نجاحه بمدى قدرته على منح الجمهور لحظات يشعر فيها بسعادة حقيقية. الأمور بسيطة ولا تحتاج إلى فلسفة عميقة , فالعرض الموسيقي الجيد هو الذي ينجح في خلق تلك الحظة التي يسعى إليها الجمهور بحضوره عروض المهرجان. * مازال المهرجان يعول إذن في برمجته على الهياكل الثقافية الرسمية الممثلة للبلدان المشاركة؟ - إن مصادر تمويل المهرجان متعددة من بينها وزارة الثقافة والمحافظة على التراث ووزارة السياحة ونتعاون كذلك مع السفارات والهياكل الثقافية الرسمية الممثلة لبلدانها لدينا كما نستفيد من دعم بعض محبي الموسيقى الراقية وهذا أمر معمول به في مثل هذه الأحوال. ما ينقصنا هو دعم المستشهرين فلم يعد خفيا على أحد ارتباط النشاط الثقافي بالحركة الاقتصادية وحاجته إلى المؤسسات الاقتصادية ليتواصل العمل الثقافي وليصل إلى الناس. * ما هي مكونات الجمهور المواكب لأكتوبر الموسيقي. هل تطور إقبال التونسيين على هذه التظاهرة أم لازال الأجانب المقيمين ببلادنا يمثلون النسبة الأكبر من الحضور ؟ - لا أعتبر الجمهور التونسي غائبا عن هذه التظاهرة بل على العكس هناك اقبال يرافقه قدرة ملموسة على التأقلم مع أجواء المهرجان وتذوق واضح للعروض التي تعتبر من نوعية خاصة فهي تقام في أجواء صامتة وتتطلب حضورا ذهنيا كبيرا فالموسيقى الكلاسيكية وإن هي كانت ولازالت ابداعا انسانيا فإنها لا تدخل في تقاليد السماع لدينا ودور مهرجانات على غرار أكتوبر الموسيقي يتمثل في إثارة فضول الجمهور التونسي حولها في انتظار أن تتكرس لدينا عادة الإنفتاح على مختلف الألوان الموسيقية والثقافات الأخرى ككل. وقد بدأنا نشاهد اقبال طلبة المعاهد الموسيقية ببلادنا على التظاهرة بعد عقد اتفاقية مع هذه المعاهد في الغرض. إذ من الإيجابي جدا بالنسبة لهؤلاء الطلبة حضور هذه العروض بعد يوم دراسي كامل إضافة إلى ما توفره هذه العروض من فرص للإطلاع على تجارب الأجانب وهي فرصة غير متاحة يوميا. * بدأت تظهر عدة مهرجانات في بلادنا تتيح للجمهور فرصة الإطلاع على ألوان موسيقية مختلفة عما هو سائد .هل تعتقد في جدوى هذه الحركة خاصة وأنها تقام تقريبا في أوقات متزامنة مع أكتوبر الموسيقي؟ - تعدد المهرجانات المتخصصة هي حركة صحية والتنافس لا يمكن إلا أن يكون جيدا لكن صادف هذاالعام وإن تزامن موعد أكتوبر الموسيقي مع النصف الثاني من شهر رمضان الذي يشهد حركة ثقافية نشيطة ولتوفير أفضل حظوظ للنجاح لأكتوبر الموسيقي أجلنا موعد انطلاق الدورة الجديدة إلى النصف الثاني من الشهر لكن عموما لا بد من مراعاة مواعيد انطلاق المهرجانات حتى لا يضيع الجمهور بين هذه التظاهرة وتلك. * تدير هذه التظاهرة الموسيقية منذ تأسيسها هل من أحلام خاصة بشأن مستقبل أكتوبر الموسيقي؟ - ليس لدي بالضرورة أحلام خاصة بأكتوبر الموسيقي. يكفي أن يحافظ على أهدافه وأن يكون متنفسا لجمهور يعشق ألوانا موسيقية غير متداولة بالبلاد. مقابل ذلك أتمنى أن تتدعم البنية الأساسية الثقافية بالبلاد وأن يزداد عدد الفضاء ات الثقافية في بلادنا بما يسمح بإقامة عروض في ظروف طيبة. لا أعني في هذا الشأن الفضاءات الضخمة إنما أقصد الفضاءات الصغرى حيث نجد في كل حي فضاء ه الثقافي الخاص. أنشد كذلك اليوم الذي يتحول فيه الفعل الثقافي في بلادنا إلى فعل عادي وأن نخرج من ذلك الوضع الذي نعيش فيه مع كل تظاهرة ثقافية على أنها حدث بأتم معنى الكلمة. نطمح إلى أن يكون الفعل الثقافي فعلا طبيعيا كغيره من الأفعال الأخرى في حياتنا اليومية.