محمود عبد المولى بعد أن اشتعلت الدنيا بالحوض المنجمي أتى الدور على غرب البلاد بوسطه (ولايات القيروان والقصرين وسيدى بوزيد) وبشماله (ولايات الكاف وجندوبة وباجة وسليانة) أين لا زال الأهالي يعانون الأمرين بفعل الأزمة الهيكلية لإقتصاديات بقيت ريفية على هامش حراك التصنيع وأيضا لعقم الإدارة المؤسساتية التي طالما كبلت حراك التنمية الذاتية بها. إذ أتى اللهيب الذي وقوده شباب جامعي وغير جامعي مهمش على كل مناطق هذا المجال الترابي الشاسع... شباب أرادت سخرية الأقدار أن يكون في معظمه من جيل «تغيير بن علي» أي دون الثلاثين من العمر!)
منظومة مؤسساتية فاسدة...
كان «ركب» التنمية بالجهات التونسية بشكل عام والداخلية منها بالخصوص يسير نحو الهاوية فى غياب صحوة سياسية ديموقراطية جادة تكون مدخلا لإصلاح مؤسساتي عميق يطال المنظومة المؤسساتية الحكومية التونسية المدبرة للتنمية من هياكل الدولة المكلفة بمساندة وبتأطير الحراك الإنمائي بالجهات... منظومة مؤسساتية تشكو ثغرات هيكلية وتجاوزات تسييرية وقيادية... لقد عكست الأحداث الأليمة الأخيرة مدى مصداقية «إنجازات التنمية» المسجلة طيلة السنون الخوالي بالمناطق الداخلية للوطن، بعد أن تفشت البطالة الحادة فى صفوف شبابها وذلك لإنسداد الآفاق ولشح الفرص بفعل فساد بيئة الإستثمار والإدارة السياسية... فهل من مؤشر يفوق مؤشر «البطالة» للدلالة على قصور الأسلوب المعتمد فى إدارة التنمية بالجهات؟؟ أسلوب تسلطي في التسيير والقيادة ومهمش للكفاءات وإقصائي في رؤيته الإنمائية للقوى الحية للمجتمع المدني المحلي، أسلوب تحكمه المحاباة لأولى القربى والولاء الأعمى لصاحب النفوذ وللمقربين من دائرة القرار، فأضحت «القيادة» الجهوية في قطيعة فعلية مع تطلعات المقاربة المؤسساتية التحديثية الطموحة لسياسة التنمية بتونس. فالوالي معين رئاسيا وأعضاء المجلس الجهوي ذوو لون سياسي أوحد، ولا مجال لمتنفس للمجتمع المدني المحلي... وقد ساهم السلوك المؤسساتي المركزي المستقيل في التأسيس - جهويا ومحليا - «لثقافة الأشباح»، «ثقافة» الإطناب في التعلل «بالتعليمات» الفوقية المبنية للمجهول سواء لفعل الشيء أو لعدمه (!) وهو سلوك ساهم في «نحت» ملامح محيط مؤسساتي مشوه صار يفتقر لمنظومة فعلا لامركزية تكون حقا تشاركية ورشيدة ومسؤولة أمام القانون والناس بما يتيح للقوى الفاعلة الإمساك بقدرها التنموي... فالقاسم المشترك «للتكنوقراطين» ممن يتداولون على هياكل التنمية الجهوية لازال التكوين السياسي النمطي الموحد الذي حولها من هياكل فنية فاعلة إلى هياكل «مسيسة» ليتقهقر أداؤها وإشعاعها في بيئة جهوية هي في أمس الحاجة للمساندة وللتنمية رغم ما يرصد لها من مخصصات المال العام... فكيف كان حصاد الهشيم إذن؟؟ عجز فني ومؤسساتي على الأداء وإفلاس مدني في عيون الرأي العام لإدارة الشأن العام بالجهات التي عبث بمقدراتها فساد سياسي وإداري... فلطالما ميز ضعف التزام القيادة المعينة من العاصمة بقرار مركزي لا راد له بمسألة التنمية الذاتية أداء هذه المنظومة... كما تفشت السلوكيات الانتهازية فى الوسط «المتنفذ» والمقربين منه... وقد شحت فرص الرزق والتوظيف وضاقت الدنيا بالشباب المتعلم وغير المتعلم... وسرت المحسوبية وتبخرت روح المبادرة واضحت الإطارات الفنية بلا إرادة فاعلة وبلا قدرة مؤثرة في الأداء المؤسساتي... فماذا كانت النتيجة؟ عجز على استنباط حلول وتدابير عملية فعلا ملائمة تعالج بجد معضلة المعضلات، البطالة والتفاوت بين الجهات، بما يستجيب لتطلعات شباب منتفض على «الحقرة»؟ التأسيس لدولة المواطنة... أين كانت آنذاك حينما تأزم الظرف الجهوي المصالح المركزية «التكنوقراطية» المعنية بوضع التصورات وبتأطير سياسة الحكومة فى إدارة التنمية بالجهات؟ وماذا هي فاعلة أمام الأداء الهزيل لدواوين التنمية الجهوية بفعل هشاشة «القيادة» ورداءة الادارة الهرمية للعمل وتواضع كفاءة الموارد البشرية وإهتزاز القدرة الذاتية على تأمين الإضافة العملية للتنمية؟ وهو ما يدعو للتسائل عن مدى مصداقية مبدأ « الجدارة « في تعيين «القيادة»... والقدرة «الثقافية» التونسية على التأسيس لدولة المواطنة بالإنخراط الواعى والمنظم لأبنائها الغيورين على إستحقاقها في تنمية ذاتية مولدة لفرص العمل وللرفاه... لقد آن الأوان للقطع مع الرداءة ومع ما أفرزته من تسلط وفساد في التسيير.. ولا نحسب أن تفي إقالة هذا لتعويضه بذاك بالحاجة بعد ان «زلزلت الأرض زلزالها...» في ربوع تونس الثائرة ضد «الحقرة»... فلن يستقيم حال هذه الربوع المهمشة المكبلة بفساد التسيير وبثقافة مؤسساتية بدائية وممارسة تجانب»الجدارة» والشفافية والمساءلة.. إذ لا فاعلية مؤسساتية بلا انتماء واع للبيئة المحلية وبلا التزام جاد للفاعلين فيها بهموم الناس وتطلعاتهم! كما وجب القطع مع التمديد «للملاح» بعد السن القانونية للتقاعد الوجوبي وهي معضلة المعضلات... والبلاد تعج بأهل الكفاءة ممن يتطلعون إلى المشاركة في بناء هذا الوطن؟ بعد « 14 جانفى 2011 «، ليصدح الجميع بما توارى... وليفسح المجال أمام شباب تونسي، إن كان القوم نسوا ذلك، طال به الأمد مع الهشاشة والتهميش و»الحقرة»... فانتفض... ! عسى قادم الأيام أن يأتي بما ترنو له النفوس وبما تتطلع له الكفاءات المهدورة، مركزيا وجهويا، بالمنظومة المؤسساتية للتنمية... فنشهد تغييرا جذريا لمسارها المتدهور... وهل ستجني الحكومة عبرة من تداعيات «تقليد» خارق لمبدإ تكافؤ الفرص فى بلادنا؟ وذلك حتى لا يفقد الأهالي بالجهات التونسية التفاؤل بتداعيات المخاض السياسي الحالي عساه أن يولد آفاقا أرحب تنتشلهم من الغبن... ولينالوا نصيبهم من «ثمار النمو» التي طالما وعدوهم بها...