هذه خواطر جادت بها على كاتب هذه السطور الانتفاضة الشعبية التى اندلعت شرارتها بجهة سيدى بوزيد فى غرب البلاد التونسية، لتنتشر كالنار فى الهشيم أى ببقية الجهات الداخلية المحرومة وقد أضحت »محضنة« للسخط الاجتماعى الذى لا يلين منذ أحداث الحوض المنجمي بالجنوب(2008) ، قبل أن تعاود الاحداث بالجهات الصحراوية والواحات (بنڤردان، دوز، قبلى، قابس...) فيمتد اللهيب إلى جيوب الفقر بالمدن الساحلية »المحظوظة«، قاطرة التنمية بتونس... ولتؤول الحالة إلى ثورة مدنية عارمة أتت على رأس التسلط و حاشيته الفاسدة وأجهزته القمعية الأمنية منها والحزبية والإعلامية... فبعد أن اشتعلت الدنيا بالحوض المنجمي أتى الدور على غرب البلاد بوسطه (ولايات القيروان والقصرين وسيدى بوزيد وبشماله (ولايات الكاف وجندوبة وباجة وسليانة) حيث مازال الأهالى يعانون اللأمرّين بفعل الأزمة الهيكلية لاقتصاديات بقيت ريفية على هامش حراك التصنيع وأيضا لعقم الإدارة المؤسساتية التى طالما كبلت حراك التنمية الذاتية بها.إذ أتى اللهيب الذي وقوده شباب جامعي وغير جامعى مهمش على كل مناطق هذا المجال الترابى الشاسع... شباب أرادت سخرية الأقدار أن يكون فى معظمه من جيل »تغيير بن على« أى دون الثلاثين من العمر (!) منظومة مؤسساتية فاسدة...كان »ركب« التنمية بالجهات التونسية بشكل عام والداخلية منها بالخصوص يسير نحو الهاوية فى غياب صحوة سياسية ديموقراطية جادة تكون مدخلا إلى إصلاح مؤسساتي عميق يطال المنظومة المؤسساتية الحكومية التونسية المدبرة للتنمية من هياكل الدولة المكلفة بمساندة وبتأطير الحراك الإنمائى بالجهات... منظومة مؤسساتية تشكو ثغرات هيكلية وتجاوزات تسييرية وقيادية... لقد عكست الأحداث الأليمة الأخيرة مدى مصداقية »إنجازات التنمية« المسجلة طيلة السنين الخوالي بالمناطق الداخلية للوطن، بعد أن تفشت البطالة الحادة فى صفوف شبابها وذلك لانسداد الآفاق ولشح الفرص بفعل فساد بيئة الاستثمار والإدارة السياسية... فهل من مؤشر يفوق مؤشر »البطالة« للدلالة على قصور الأسلوب المعتمد فى إدارة التنمية بالجهات أسلوبا تسلطيا فى التسيير والقيادة ومهمشا للكفاءات وإقصائيا فى رؤيته الانمائية للقوى الحية للمجتمع المدنى المحلي، أسلوبا تحكمه المحاباة لأولى القربى والولاء الأعمى لصاحب النفوذ وللمقربين من دائرة القرار، فأضحت »القيادة« الجهوية فى قطيعة فعلية مع تطلعات المقاربة المؤسساتية التحديثية الطموحة لسياسة التنمية بتونس، فالوالي مُعيّنٌ رئاسيًّا وأعضاء المجلس الجهوى ذوي لون سياسى أوحد، ولا مجال لمتنفس للمجتمع المدنى المحلي...وقد ساهم السلوك المؤسساتى المركزي المستقيل فى التأسيس - جهويا ومحليا »لثقافة الأشباح«، »ثقافة« الإطناب في التعلّل »بالتعليمات« الفوقية المبنية للمجهول سواء لفعل الشيء أو لعدمه (!) وهو سلوك ساهم في »نحت« ملامح محيط مؤسساتي مشوه صار يفتقر لمنظومة فعلا لامركزية تكون حقا تشاركية ورشيدة ومسؤولة أمام القانون والناس بما يتيح للقوى الفاعلة الإمساك بقدرها التنموي... فالقاسم المشترك »للتكونوقراطين« ممن يتداولون على هياكل التنمية الجهوية مازال التكوين السياسي النمطي الموحد الذي حولها من هياكل فنية فاعلة إلى هياكل »مسيسة« ليتقهقر أداؤها وإشعاعها فى بيئة جهوية هى فى أمس الحاجة إلى المساندة وللتنمية رغم ما يرصد لها من مخصصات المال العام...فكيف كان حصاد الهشيم إذن: عجز فني ومؤسساتى على الأداء وإفلاس مدني فى عيون الرأى العام لإدارة الشأن العام بالجهات التى عبث بمقدراتها فساد سياسى وإداري...فطالمَا ميز ضعف التزام القيادة المعينة من العاصمة بقرار مركزي لا راد له بمسألة التنمية الذاتية أداء هذه المنظومة... كما تفشت السلوكيات الانتهازية فى الوسط »المتنفذ« والمقربين منه... و قد شحت فرص الرزق والتوظيف وضاقت الدنيا بالشباب المتعلم وغير المتعلم بما رحبت...و سرت المحسوبية وتبخرت روح المبادرة واضحت الإطارات الفنية بلا إرادة فاعلة وبلا قدرة مؤثرة فى الأداء المؤسساتى...فماذا كانت النتيجة: عجز على استنباط حلول وتدابير عملية فعلا ملائمة تعالج بجد معضلة المعضلات، البطالة والتفاوت بين الجهات، بما يستجيب لتطلعات شباب منتفض على »الحقرة«: التأسيس لدولة المواطنة...أين كانت آنذاك حينما تأزم الظرف الجهوى المصالح المركزية »التكنوقراطية« المعنية بوضع التصورات وبتأطير سياسة الحكومة فى إدارة التنمية بالجهات. وماذا هي فاعلة أمام الأداء الهزيل لدواوين التنمية الجهوية بفعل هشاشة »القيادة« ورداءة الادارة الهرمية للعمل وتواضع كفاءة الموارد البشرية واهتزاز القدرة الذاتية على تأمين الإضافة العملية للتنمية. وهو ما يدعو إلى التساؤل عن مدى مصداقية مبدأ »الجدارة« فى تعيين »القيادة«... والقدرة "الثقافية" التونسية على التأسيس لدولة المواطنة بالإنخراط الواعى والمنظم لأبنائها الغيورين على إستحقاقها فى تنمية ذاتية مولدة لفرص العمل وللرفاه... لقد آن الأوان للقطع مع الرداءة و مع ما أفرزته من تسلط وفساد في التسيير..ولا نحسب أن تفى إقالة هذا لتعويضه بذاك بالحاجة بعد ان »زلزلت الأرض زلزالها«... فى ربوع تونس الثائرة ضد »الحقرة...« فلن يستقيم حال هذه الربوع المهمشة المكبلة بفساد التسيير وبثقافة مؤسساتية بدائية وممارسة تجانب »الجدارة« والشفافية والمسائلة.. إذ لا فاعلية مؤسساتية بلا انتماء واع إلى البيئة المحلية وبلا التزام جاد للفاعلين فيها بهموم الناس وتطلعاتهم !كما وجب القطع مع التمديد »للملاح« بعد السن القانونية للتقاعد الوجوبي وهى معضلة المعضلات... والبلاد تعج بأهل الكفاءة ممن يتطلعون إلى المشاركة فى بناء هذا الوطن؟ بعد » 14جانفى 2011«، ليصدح الجميع بما توارى ... وليفسح المجال أمام شباب تونسى، إن كان القوم نسوا ذلك، طال به الأمد مع الهشاشة والتهميش و»الحقرة...« فانتفض... !عسى قادم الأيام أن يأتي بما ترنو له النفوس وبما تتطلع له الكفاءات المهدورة، مركزيا وجهويا، بالمنظومة المؤسساتية للتنمية... فنشهد تغييرا جذريا لمسارها المتدهور ...وهل ستجني الحكومة عبرة من تداعيات »تقليد« خارق لمبدأ تكافؤ الفرص فى بلادنا: و ذلك حتى لا يفقد الأهالى بالجهات التونسية التفاؤل بتداعيات المخاض السياسي الحالي عساه أن يولد آفاقا أرحب تنتشلهم من الغبن... ولينالوا نصيبهم من »ثمار النمو« التي طالما وعدوهم بها... محمود عبد المولى خبير في اقتصاد التنمية تونس 1