محمد علي القليبي منذ فرار الرئيس السابق زين العابدين بن علي وسقوط نظامه يوم 14 جانفي الماضي ظهر العقيد معمر القذافي على شاشات التلفزيون وهو شبه مخدر لينتقد الشعب التونسي على ثورته قائلا إنهم أخطأوا كثيرا عندما ثاروا ضد بن علي وأنه كان الأجدر بهم أن يحتفظوا به رئيسا مدى الحياة. في ذلك الوقت ظن البعض أن القذافي يهذي ولكنه في الواقع كان يعني ما يقول فقد أدرك أن رحيل بن علي وقيام نظام ديمقراطي حقيقي إلى جانبه يعني بالتأكيد أن نهايته قد اقتربت ولكنه لم يكن يدرك أن هذه النهاية ستكون قريبة إلى هذا الحد وأن نظاما عاتيا آخر يقف على الجهة الأخرى من الحدود الليبية وهو نظام حسني مبارك سيتداعى ويتهاوى أمام قبضة الثوار المصريين. ومما لا شك فيه أن القذافي وبرغم قصر الفترة الزمنية بين قيام ثورتي تونس ومصر وبين بزوغ فجر الثورة في ليبيا قد عمل على الاستفادة من تلك التجربتين الثوريتين وهو ما يفسر استعانته الكبيرة بالمرتزقة الأجانب واستخدامه أقصى أنواع الوحشية في محاولة يائسة لإخماد نار الثورة الشعبية في بلاده والاستمرار في حكم البلاد بطريقة بلطجية إلى الأبد. فقد أدرك القذافي أن قدرة الأجهزة الأمنية على قمع انتفاضة الشعب غير ممكنة طالما كان هذا الشعب مصمما على تحقيق طموحاته وتطلعاته في الحرية والكرامة والقضاء على كل أنواع القمع والتسلط والاستبداد والفساد، كما أن تدخل الجيش في عملية القمع دونه محاذير شتى ولذلك سارع الى الاعتماد على الوسيلة التي اعتقد أنها يمكن أن تساعده على الاستمرار في حكم ليبيا وتوريثها إلى أبنائه وأحفاده وهي "استيراد" المرتزقة وتسليمهم مهمة القمع الدموي الرهيب بالتعاون مع أفراد ميليشياته وأجهزته الشخصية المسلحة التي ترتزق بوجوده ولا حياة لها من دونه. ولكن هذه الوسيلة لم تحقق الهدف الرئيسي المطلوب منها وهو القضاء على الثورة لأن الأوان قد فات بالفعل وقال الشعب كلمته الفصل وهو ما لم يدركه القذافي ولم يفهمه مع الأسف وهو أمر لا يستغرب منه وهو المصاب بجنون العظمة وهستيريا الزعامة، ومع إدراكنا أن ما قام به القذافي من أعمال إجرامية شنيعة بحق شعبه المجاهد فاق كل التصورات إلا أننا لا نعتبر في حقيقية الأمر أن القذافي هو السفاح الخطير الوحيد في العالم العربي وأن غيره ممن يمسكون بزمام رقاب العباد ومستقبلهم هم حملان وديعة ما أن يطالبهم الشعب بأصوات هادئة وبإشارات بسيطة بالتنحي عن السلطة حتى يسارعوا إلى الرحيل! إن هذا الأمر غير صحيح على الإطلاق ولنا من التجارب الحية أكبر دليل على ذلك، فما إن انطلقت شرارة الثورة التونسية في 17 ديسمبر 2010 حتى بادر بن علي إلى التعامل معها بمنتهى القسوة وتجلى ذلك في التصدي العنيف لها من قبل الأجهزة الأمنية التي لم تعبء بسقوط العشرات من الشهداء والجرحى لا بل إن بن علي ظهر على الشعب ليصف القائمين بالثورة بأنهم مجموعة من المجرمين والإرهابيين والخارجين عن القانون وأنه سيعاملهم بكل حزم، وقد كرر هذا الأمر في خطابه الثاني وكان التركيز من النظام على أن كل ما يجري هو من تدبير الإرهابيين والمتطرفين "الإسلاميين" الذين يريدون ضرب الأمن والاستقرار والقضاء على "المنجزات" وكلنا يعلم أن بن علي طلب من الجيش التونسي التدخل لقمع الثورة بعدما عجزت الأجهزة الأمنية على القيام بهذه المهمة، ولما فشلت الضغوط الشديدة التي مارسها في هذا الاتجاه في تحقيق هدفه لم يكن أمامه غير الفرار إلى المملكة العربية السعودية خشية أن تمتد اليه يد الثورة في قصره، والأمر ذاته تكرر بشكل شبه حرفي مع حسني مبارك في مصر حيث مارست الأجهزة الأمنية المصرية كل أشكال القمع والترويع ضد الشعب المصري الثائر ووصل الأمر بمبارك إلى حد استعمال البلطجية والجمال والخيول مستخدما في حق الشعب المصري نفس الاتهامات التي أطلقها بن علي ضد الشعب التونسي ولكنه اضطر إلى الرحيل أيضا نتيجة رفض الجيش المصري تلبية طلبه بقمع الثورة بقوة السلاح. وما يجري الآن في اليمن لا يختلف عما جرى في تونس ومصر وبعض ما يجري الآن في ليبيا حيث يستخدم الرئيس علي عبد الله صالح كل الوسائل المتاحة لضرب تحرك الشعب اليمني والبقاء سعيدا على كرسي الحكم، كما أن ما يجري الآن في البحرين لا يبدو بعيدا أيضا عن هذا الواقع حيث فاجأ الجيش البحريني آلاف المعتصمين في دوار اللؤلؤة وسط العاصمة وأطلق عليهم النار بشكل عشوائي وهم نيام فجرا، وإذا أردنا إعطاء أمثلة أخرى في دول عربية أخرى فإننا لا ننتهي. إن كل ذلك له دلالة واحدة وهي أن الحكام العرب من الخليج إلى المحيط لطالما اعتبروا أن الدول التي يحكمونها هي ممتلكات شخصية لهم يتصرفون بها كما يشاؤون ويرتعون بخيراتها كما يريدون وأن الشعوب التي يتسلطون عليها هي مجرد قطيع من الأغنام أو ما شئت أي نوع آخر من الحيوانات كالجرذان في قاموس القذافي- يتحكمون بها ويستخدمونها وفق ما يحلو لهم، ولم يكن أحد منهم يتوقع ولو للحظة واحدة أن هذه الشعوب ستستيقظ يوما ما وتهز كياناتهم. ومن المفجع الآن أنه بالرغم من كل ما جرى ويجري فإن البعض منهم لا يزال بعيدا عن الاستفادة من الدروس والعبر معتقدا أن شعبه لا يزال غافلا ومغفلا أو أنه يمكن شراؤه بحفنة من الدريهمات والإغراءات والامتيازات، علما أن البعض الآخر بدأ يستعد للتعامل بشكل إيجابي مع التطورات والمستجدات مقتنعا أن خسارة جانب من سلطاته أفضل من خسارة كل شيء. إن ثورات تونس ومصر وليبيا هي درس كاف لمن يريد أن يتعظ وينقذ نفسه، أما من يستمر في المكابرة والعناد فلن يكون مصيره أفضل مما آل إليه حال بن علي ومبارك والقذافي.