ثلاث نقاط تتحكم اليوم بالمشهد الدولي بصفة عامة والمشهد الإستراتيجي الإقليمي في الشرق الأوسط بصفة خاصة، ثلاثة معطيات جيوسياسية تطفو على سطح الأحداث بسرعة جعلت الغرب لا يدرك فعلا ما الذي حصل في المنطقة فالغرب وخاصة الولاياتالمتحدة تتعامل الآن مع "تسونامي سياسي" أخذ يعصف بجهود أكثر من ثلاثة عقود من الديبلوماسية الخبيثة والحروب الإستباقية التي أتت على الإرادة السياسية للأنظمة العربية، وتسببت في ظهور مشهد سياسي في البلدان العربية تتشابه فيها الأنظم في نقطة أساسية وهي "الإستبداد" والإبتعاد عن الشعوب. النقاط الثلاث هي التي حسمت الموقف الأمريكي من العراق وقرار الإغارة عليه والإحتفاظ بقدم في ملتقى البحرين (قزوين والخليج) والحضارتين (العربية والفارسية)، ورافدي الطاقة (البترول والغاز الطبيعي). وهي نفس النقاط التي حسمت الحرب الديبلوماسية على مصر السادات بعد نصف الحرب (سنة 1973) - واحتفظت بقدم على البحرين (المتوسط والأحمر)، وساق بين القارتين (آسيا وإفريقيا) ويد على طريق التجارة الدولية، وحافظت على أولوياتها الأمنية (أمن إسرائيل). من التنظير إلى التطبيق وبذات النقاط الثلاث والحفاظ على استقرارها تعمل أمريكا على استراتجيتها بكامل منطقة ما عبر عنه مشروع شيمون بيريز وكبار الصقور السابقين من الحرس القديم والجديد للحزب الجمهوري الأمريكي ب"الشرق الأوسط الكبير" الذي ولئن ظهرت أولى تسمياته منذ سنة 1994 إلا أن مفهومه الجيوسياسي ضمن التفكير الإستراتيجي الأمريكي وجد قبل ذلك بكثير وذلك في السنوات الأول من القرن العشرين، مع البداية التطبيقية للمشروع الصهيوني في الأرض الفلسطينية التاريخية، وذلك ما تؤكده أعمال كبار الباحثين الإستراتيجيين الأمريكيين بداية من "جيوسياسة بحار" لألفريد ماهان في سنوات العشرين إلى "نهاية تاريخ" فرنسيسكو فوكوياما و"صراع حضارات" صمويل هنتنغتون. ولعل هذه النقاط الثلاثة المحددة للسياسة الخارجية يمكن يمكن أن نشبهها بأضلاع مثلث يتكون أساسا من عناصر تؤثر على المفهوم الأمريكي للأمن القومي: الضلع الأول النفط، الضلع الثاني طرق التجارة الكبرى، والضلع الثالث حماية الأسواق الإستهلاكية. هذا المثلث المرعب هو الذي يشكل القرار الأمريكي، الذي يمر قبل الإتخاذ على عدة نقاط ليتحدد ويكون ملائما للحظة التي تعمل على أساسها الإستراتيجية العامة الأمريكية، فينتقل القرار بالمطبخ الفكري (الثينك تانكس)، الذي يحدد المعالم الأساسية للتغيرات الإستراتيجية الدولية وفق الخريطة السياسية الدولية; فالأحداث ومتسببات الأحداث في ما وراء البحار هي التي تحدد إشكاليات اللحظة الراهنة وتحدد مدى خطورتها على تلك الإستراتيجية أو التخطيط العام للسياسة الأمريكية، ذلك المطبخ السياسي يأخذ توابله الأساسية ومستلزماته المادية من معلومات عامة وخاصة (علنية وسرية) من قرون استشعار (أجهزة استخبارات)، منتشرة حول العالم وخاصة في المناطق التي تعتبر مهمة بالنسبة للمصالح الأمريكية المحددة بأضلاع المثلث. ولعل عمل تلك الأجهزة من أجهزة الإستشعار المعلوماتية (الأنتليجنسيا) وخلايا (الثينك تانكس) لا يخضع إلى الأدلجة، بقدر ما يخضع لقانون البراغماتية التي تنبني عليها فلسفة السياسة الخارجية الأمريكية، فلا حقوق إنسان ولا مبادئ أخلاقية يمكن أن تؤثر على عمل تلك الأجهزة، فالمحدد الأول والأخير في عملها هو معيار المصلحة ومدى تأثير سياسة معينة على عمل أضلاع المثلث والمساس بها، بل إن هذه الأجهزة تجاوزت في عدة مرات قانون البراغماتية الذي يحكمها ليتحول إلى وحشية عمياء يمكنها من تجاوز حتى تلك الصيغ التي بنت عليها النظام الدولي الذي يحكم العالم منذ الحرب العالمية الثانية وهو القانون الدولي ومسوغاته (اجتياح العراق دون قرار أممي)، أو حتى التعدي على رموز السياسة الأمريكية كالرئيس وغيرهم من سيناتورات ونواب الكونغرس (واتر غايت، اغتيال الرئيس كينيدي ومن ثم باقي أفراد عائلته). فرضيات تطبيق القرار ومن ثم فإن صياغة القرار يمر عبر معرفة سيناريوهاته مسبقا عند التنفيذ، فتحدد خلايا التفكير مدى تأثير سيناريو على الأحداث لتحسب عواقبه وفائدته على المدى القصير والبعيد والمتوسط، ومن ثم تدرس الفرضيات التي يمكن أن تقام عقب إقرار القرار وتنفيذه، ومن ثم تعرضه على الحكومة الأمريكية فيأخذ مأخذه من الدرس والتمحيص، يعرض على الرئيس ومستشاريه، ثم يتخذ قرار بشأنه على مستوى مجلس الأمن القومي، ثم تعرض فرضياته من جديد على الرئيس الذي يمرره إلى الكونغرس، والذي يقوم بتدارسه ومناقشته قبل تمريره إلى مجلس الشيوخ حيث يقره السيناتورات أو يرفضونه لتعديله- إذ أن تركيبة الكونغرس تضمن ذلك إذ عادة ما يكون أحد الحزبين الجمهوري والديمقراطي مسيطرا بأغلبية ضعيفة على إحدى الحجرتين- ومن ثم يقره الرئيس في قراءة أخيرة ليصبح قانونا وجوبيا يضمن مصلحة جميع "الأفراد الأمريكيين بمختلف تياراتهم السياسية. "التسونامي" في الفكر الإستراتيجي الأمريكي إن معرفة هذا التمشي يمكن أن يحيلنا إلى مفهوم اللحظة التي تعيش فيها واشنطن إزاء "تسونامي السياسي" الذي ضرب فجأة شواطئ الأمان الأمريكي، والمنطقة التي تتوفر فيها أضلاع المثلث الثلاث استطاعت أمريكا من تحييديها طوال أكثر من 30 سنة من الديبلوماسية والحروب الإستباقية وحروب بالوكالة بواسطة إسرائيل. فالملاحظ اليوم أن المطبخ السياسي لم يكن يتوقع أن تحدث ثورة في العالم العربي في مثل هذا التوقيت ففي أغلب السيناريوهات المسطرة فإن انتفاضة ستقوم بعد الإنتخابات الرئاسية المصرية، لذلك كانت أمريكا دائمة التركيز على مصر منذ 3 سنوات وتلح على مبارك أن يلجم الفساد ويصلح الإقتصاد ويسمح بالحريات، وكان البرادعي أحسن من استطاع تمثيل تلك العملية منذ خروجه من باب وكالة الطاقة الذرية ودخوله إلى مصر من باب الإصلاح والتغيير، وكانت أمريكا تدرس ثورانا يمكن ترويضه في فترة 3 سنوات من مصر أو من اليمن التي تدق فيها منذ سنوات طبول الحرب من الحوثيين الزيديين المدعومين من الإمامة الكبرى في إيران وكذلك فزاعة القاعدة التي تشكل الشوكة التي أسستها أمريكا لتقض مضاجع وسادة أمنها القومي. لكن السيناريو الذي حصل انطلاقا من تونس أدخل لخبطة في حساب الفرضيات التي رسمها المطبخ السياسي، ضرب الزلزال في غرب البحر العربي، فكونت موجة كبيرة من الأفكار سرعان ما حطمت الرأس الغرانيتي للفرعون في مصر، واتجهت فيما بعد لتحط على رأس صالح في اليمن، ولتنكسر فيما بعد في موجة أعنف على صخور بحيرة النفط في ليبيا، الأراضي العذراء الذي خير الغرب الإنحناء وتقبيل أيادي القذافي ليسمح له بحنفيات النفط والغاز بعد أن كان لأكثر من 20 سنة أكبر أعداء الغرب، ركع له توني بلير وضرب بحذائه على القضاء البريطاني ليضمن لشركة "بي. بي." آبار النفط العذراء بعد اطلاق المتهم الأول-حسب القضاء الأسكتلندي- في قضية لوكربي عبد الباسط المقراحي فيما وصف فيما بعد بالصفقة بين القذافي وحكومة العمال سنة 2007. ولعل ما تعانيه اليوم خلايا التفكير الأمريكية وأجهزة استشعاراته يكمن في أن الأحداث المتسارعة التي عصفت بمنطقتين أساسيتين بالنسبة للمثلث الأمريكي وهما النفط الليبي وقناة السويس وبداية التزلزل الذي لاح في اليمن وعمان والبحرين -حيث يربض الأسطول الخامس الأمريكي- أخذ يطرح خطة سياسية بديلة بدأت في مصر، وأخذت تطرح تدخلا قد يكون عسكريا في ليبيا، إذ أن ليبيا كانت ستكون المصدر الرئيسي للنفط في صورة قيام حرب على إيران ثالث أكبر مصدري واحتياطي النفط في منظمة "أوبك"، حيث أن ليبيا ستكون بعيدة عن ساحة الحرب التي حددتها أمريكا في المظلة الصاروخية ضد الصواريخ الإيرانية انطلاقا من تركيا والقوقاز وشرق أوروبا في دول البلطيق الممثلة في حلف الشمال الأطلسي ومرورا بنقاط تموقع البوارج الأمريكية الموجودة تباعا في البحر المتوسط قبالة سواحل الفلسطينية المحتلة والبحر الأحمر وبحر العرب قبالة السواحل اليمنية، ومن هنا يفهم لماذا أمريكا تريد فتحة شرعية لضرب نظام القذافي سواء مباشرة أو عن طريق الثوار المسلحين في الشرق الليبي وذلك من شأنه أن يساعد على ضمان إعادة دق عمود في بحر النفط الليبي، يكاد يعصف به تسونامي الغضب العربي، فالأمريكيون يدركون اليوم أن موقعهم كمؤثر استراتيجي في المنطقة بدأ يتفسخ.