ربما فاجأت الثورة في تونس العالم حيث أنها أتت من حيث لا يدركون ولكن الثورة لا تولد من لاشيء. التاريخ يفيد بأنه لا بد من اجتماع عدد من الأسباب حتى تصبح الثورة شيئا شبه محتوم ويبقى نشوبها مسألة وقت. ومن بين هذه الأسباب رفض الشعب للحاكم الظالم بعد خضوعه لسطوته وقمعه لفترة طويلة وازدرائه له بعد التحرر من الشعور بالخوف من السلطة التي تصبح غير مهابة. هناك بطبيعة الحال أسباب اجتماعية منها ارتفاع الأسعار وضعف المقدرة الشرائية وانتشار الفقر والإحساس بالظلم وغياب العدالة إلخ. ربما لم يمض على ثورة 14 جانفي وقتا طويلا يسمح للمؤرخين بدراسة أسباب الثورة التونسية ومسبباتها لكن تكاد تكفي الملاحظة الدقيقة للإقرار بأن أغلب الأسباب المذكورة قد توفرت حتى تقوم الثورة في بلادنا وتنتهي بإزاحة النظام القائم. طبعا لقد تعلق الأمر بثورة شعبية انطلقت من المناطق الداخلية بالبلاد الأقل حظا في التنمية وفي تقسيم الثروات ثم توسعت إلى عدد آخر من مناطق الجمهورية قبل أن تعرف أوجها بالعاصمة. الأمر الذي يجعل منها ثورة التونسيين الذين عانى أغلبهم من الديكتاتورية بقطع النظر عن أوساطهم الإجتماعية وانتماءاتهم وجهاتهم. يجد كل تونسي نفسه في الثورة الشعبية مهما اختلفت المنطلقات والأهداف لأن النظام البائد كان في خدمة نفسه أولا وحزمة ضيقة من المتمعشين منه والمتحذلقين الذين يكاد لا يخلو أي مجتمع بشري من أمثالهم وكانت يده الطولى لم تترك أي شخص بمنآى عن قمعه. وليس من باب الصدفة أن الثورة التي انطلقت من سيدي بوزيد بالوسط الغربي وساندتها المدن والقرى المجاورة سرعان ما سارت بالبلاد كالنار في الهشيم. لم تقتصر المسيرات الحاشدة يوم 14 جانفي على العاصمة بل شهدت مدن كبرى تصنف على أنها محظوظة على غرار صفاقس وسوسة والمنستيروالمهدية وغيرها مسيرات حاشدة رفعت نفس الشعارات والتي كان على رأسها مطالبة الرئيس السابق بالرحيل. كانت الثورة ثورة كل التونسيين حتى وإن كان من باب المسؤولية التاريخية الإعتراف بأن المناطق الداخلية المجاهدة قد أطلقت الشرارة الأولى لها وهذا أمر في غاية الأهمية. ومن بين مزايا الثورة التونسية أنها ساهمت بدرجة أولى في تحرير الأفواه المكممة في مختلف المناطق لكن ليس كل ما يخرج من قول هذه الفترة من شأنه أن ينزل على الناس بردا وسلاما. وإن قبلنا من عامة الناس أن تتبنى خطابا متحررا تماما حتى مما هو متفق عليه من أدب الكلام فإن ملاحظة الشيء نفسه بمنابر جدية من بينها المنابر الإعلامية وجلسات الحوار قد يدفع للإستغراب حقا. هناك نزعة مثلا نحو تأجيج النعرة الجهوية ونزعة نحو تحميل مسؤولية تصرف شخص أو مجموعة من الأفراد لم يكونوا في مستوى المؤتمن لجهة كاملة. الحمد لله أن الأمر ليس متفشيا بشكل واسع ولكنه قد ينذر بالخطر. نحمد الله حتما على الظروف التي اجتمعت في تونس كي تقوم الثورة المباركة وتخلص الشعب من براثن الديكتاتورية وإلا ماذا كان ينتظر البلاد في صورة لو بقيت الأمور على ما كانت عليه لكن السؤال الذي يطرح اليوم وقد أنعم علينا الله بالحرية من يملك حق التقريع لغيره والحال أن التونسيين كانوا جميعهم يقادون بالحديد والنار مثل قطيع الغنم. ما كان للثورة أن تقوم لو أن البلاد كلها لم تتوحد حول كلمة واحدة ولو لم يطل الظلم الجميع إلا من رضي عنه النظام البائد وكانوا يدورون في فلكه يتطبعون بنفس طباعه ويسلبون مثله الشعب ويمتصون دمه وهؤلاء لم يكونوا حكرا على جهة أو على مجال مهني أو قطاع من القطاعات دون غيرها. لقد كان النظام البائد على درجة كبيرة من الغباوة حتى أنه وحد الشعب التونسي ضده باستثناء قلة لم يكن بوسعها أن تفعل له شيئا يوم سقوطه.