بقلم: الحبيب الجنحاني نشرت لي جريدة «الصباح» بتاريخ 23/02/2011 مقالا بعنوان «السياسة وتوظيف الدين» شرحت فيه كيف حاول النظام السابق استغلال الدين لنشر فكر إسلامي شعبوي تتفشى في صفوف أنصاره الخرافة والفكر الأسطوري، وذلك ضمن خطة التوريث، واندرج ضمن هذه الخطة تأسيس إذاعة الزيتونة، ثم بنك الزيتونة، وعبرت عن أسفي كيف استغلت العمامة الزيتونة لتزيين حفل تدشين البنك، ولم أذكر الأشخاص من باب الاحترام والتقدير، إذ أن القضية بالنسبة لي قضية موقف، وليست قضية أشخاص، وحاولت التماس الأعذار لما قلت قد يكون غرر بالشيخ الوقور دون أن يدرك نوايا المخططين، ثم جاء الرد بعنوان «توظيف الثورة»، وتوضيحا لبعض النقاط أبدي الملاحظات التالية : أولا ? من المعروف أن الحوار على صفحات الجرائد له قواعده وآدابه، إنني لم أذكر الأسماء احتراما لشعور الناس، إذ أن المهم بالنسبة للقضية التي عالجتها هو الموقف، وليس شخصا بعينه. ثانيا ? لماذا تركت القضية المحورية في مقالي «السياسة وتوظيف الدين»، وجاء الرد لمناقشة مسائل ثانوية، وأعني بالقضية المحورية : هل للادخار في البنوك الوطنية علاقة بالربا الذي حرمه الإسلام؟ هذه مسألة جدلية سال حولها حبر غزير، واجتهد فيها كبار المجتهدين العارفين بالنصوص المؤسسة للحضارة العربية الإسلامية معرفة دقيقة، أنا لم أناقش مسالة «الصيرفة الإسلامية» فهو موضوع يهم أهل الاختصاص، ولا يهم قارئا عاديا للصحف. القضية المحورية التي عالجتها في مقالي ذات شقين : أ? - فهمت من التصريح أمام وسائل الإعلام بأن الادخار في «بنك الزيتونة» هو «الادخار الصحيح»، وهذا يعني حتما أن ادخار الشعب التونسي في البنوك الوطنية منذ الاستقلال هو ادخار غير صحيح، أي ادخار باطل ؟ ب ? قلت وأنا أتفرج على مسرحية تدشين البنك : ألم يتساؤل المتزاحمون ليحظوا بالقرب من نجم المسرحية الصهر المدلل : كيف جمع ثروة طائلة في سنوات معدودات جعلته يصنف ضمن أثرى أغنياء العالم؟ ولما حاول البعض ترديد الإشاعات، والكشف عما في الزوايا من خبايا أسكته قائلا: لعله غرر به فاعتقد أنه جمعها بعرق الجبين، وقلت لمن حاول سوء الظن: إن بعض الظن إثم، وتلك هي الأخلاق النبيلة لمن هو مسلم ورع حقا وليس مظهرا. تعلمت من الردّ شيئا جديدا لما قرأت «إن كل شركة خفية الاسم كالبنوك عندما تبعث ينتهي فيها ربط المال بالأشخاص» حتى لو كان هؤلاء الأشخاص يملكون تسعين بالمائة من الأسهم؟ قل ربي زدني علما. ثالثا ? أود التأكيد مرة أخرى أنه ليست لي أية مشكلة مع أي شخص، وأنا بطبعي مؤمن بالمقولة التصالحية «إلتمس لأخيك عذرا»، أخيك في الدين، وفي الوطن، وفي الفكر. مسألة واحدة تحفزني، بل قل تغضبني هي توظيف الدين لأسباب سياسية، أو لقضاء مآرب شخصية، وبخاصة إذا ارتبط هذا التوظيف بمؤسسة تربوية عريقة : الزيتونة، وقد كان لها دور بعيد المدى في الذود عن الهوية العربية الإسلامية للشعب التونسي، وهي التي غرست في روح النضال ضد الظلم والاستبداد، وكلما استعمل اسمها زيفا وبهتانا أتذكر شيوخي الذين شرفوا بمواقفهم تاريخها النضالي والتنويري، وأتذكر بالخصوص زملائي في الدراسة الذين تظاهرت معهم في مرحلة الشباب ذودا عن الاستقلال، وحرية الوطن، وسقط بعضهم برصاص الاستعمار، كما سقط اليوم الشباب برصاص دولتهم، وقد ناضل آباؤهم لتكون دولة الاستقلال، دولة الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية فتحولت إلى دولة قمع وفساد، موظفة الانتهازيين من رجال الدين. انتابني دائما شعور الحزن والإشفاق كلما شاهدت أهل المناصب الدينية بزيهم الزيتوني الوقور تزين بهم محافل الصنم، وهي مناصب لا يقبلها عادة إلا أهل التقوى، والإخلاص للقيم الإسلامية النبيلة، وفي مقدمتها مقاومة الظلم والتنديد بأصحابه. يمكن للمرء أن يحسن الظن، ويتجاوز الأخطاء في الأعوام الثلاثة الأولى، وهي السنوات التي لم يتبين فيها الرشد من الغي، أما بعد نشر شبكة المتلصصين في المساجد، وغلق أبوابها في وجوه المصلين والمتعبدين، والزج بحشود من الإسلاميين في السجون زورا وبهتانا، وعذب بعضهم حتى الموت، ثم جاءت مرحلة استشراء الفساد، ونهب ثروة البلاد فقد أصبحت النوايا مفضوحة، ولا عذر بعد ذلك لمن واصل الانحناء، والدعوة من فوق المنابر بالصلاح، وطول البقاء، وأحمد الله أنني لم أحضر يوما ما هذه المحافل الدينية، ذلك أنني سرعان ما اكتشفت أنها لغير وجه الله، ومن يدعى لهم بالصلاح لا علاقة لهم لا بالصلاح، ولا بالإسلام، وإنما هي كلها مظاهر زائفة لتوظيف الدين، والتغطية على مستنقع الاستبداد والفساد. رابعا ? من يوظف الثورة؟ يوظفها أولئك الذين انحنت ظهورهم من تقبيل أيدي السلاطين المستبدين، وهم الذين تنكروا بسرعة لمن أغدق عليهم بالأمس القريب. أما أنا فقد كان لي شرف الإسهام في غرس بذور الثورة لما حرصت دائما وأبدا من فوق المنابر الجامعية على تنبيت مفاهيم الحرية، والمواطنة، ومقاومة الاستبداد بين الآلاف من طلابي، وكثير منهم تحول إلى بث نفس المبادئ في صفوف الأجيال الناشئة، فضلا عن كتاباتي المتواصلة منذ سنوات طويلة في الصحافة الوطنية والعربية، ولما فشلت يوما ما في تأسيس «تيار الديمقراطيين العرب» في تونس لأن الوضع الاستبدادي لم يسمح بذلك أسسته في عمان عام 2006 رفقة جماعة من المثقفين العرب الشرفاء، ونجحت في نشر بيان التأسيس ضمن كتابي «سيرة ذاتية فكرية» (تونس 2008)، وجاء في أحد بنوده «ينبذ الديمقراطيون العرب جميع مظاهر تسخير المثقف العربي لأهداف سلطوية، ويعتبرون أن كل مثقف خدم ركاب سلطة سياسية مستبدة، ومعادية للحريات العامة هو مثقف تنكر لقيم الفكر الإنساني الحر، وسقط».