*ما بعد الثورة ليس ما قبلها، قبل الثورة كانت السياسة الخارجية بتونس وفي معظمها تبدو وكأنها تمشي على غير هدى خاصة مع دول مجلس التعاون الخليجي فالعلاقات الاقتصادية لم تفرز توطيدا مهما ولم تحاول تونس الاقتراب من الاستثمارات ومن المخزون المالي الذي تتمتع به هذه الدول فكانت بائسة إلى حد القتامة المخيفة ويعود ذلك لعدة أسباب في ظاهرها الرحمة وبداخلها عناء شديد، أخبرني أحد الوزراء الخليجيين الكبار أن تونس كانت مدفوعة في الذهاب نحو الغرب بعلاقاتها الاقتصادية وحتى الثقافية والغرب لا يمنح كل هذا مجانا، فله مخططاته وعقائده الخاصة به ولقد أفلح الغرب في بعض ما يريد من تونس وهذا طرح آخر. فاكتفت تونس ببعض الاستثمارات الضعيفة مع الخليج العربي وخاصة الإمارات، واذكر للتاريخ أنه كانت لي صداقة بموظف سام بالدولة التونسية وكان في زيارة إلى الإمارات لبحث توطيد العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين، فتم استقبالهم بكل ترحاب وأسكنوهم في فنادق فاخرة جدا وسيارات من الطراز الرفيع وبدأت اللقاءات (وكانت بخصوص زيادة رأس مال البنك الإماراتيالتونسي) تتقدم بعض الشيء وامتد هذا إلى أكثر من ثلاث زيارات فأراد الوفد التونسي تكريم الإماراتيين بالسفارة التونسية فأقاموا لهم «عزومة» تونسية وكانت الأكلة المفضلة هي الكسكسي طبعا وميزة هذه الأكلة الشعبية أنها تؤكل وهي ساخنة وجماعية في حلقات أو على مجموعات متحلقة وهي أكلة تقليدية تتمتع بشعبية كبيرة بغرب أوروبا، فما كان من التونسيين إلا أن «غربوا الكسكسي» وكان ضمن المدعوين شخصيات هامة ومؤثرة في الدولة الإماراتية فاصطف المدعوون أمام «البيفي» في طابور فكان المنظر يبعث على السخرية أن يقف أحد الشخصيات ينتظر دوره وقد ذكرني هذا بسالف الزمان لما كنا طلبة بالجامعة ننتظر دورنا لنتقدم وبأيدينا الصحون وكم نتعب حتى نصل، ولما يأتينا الدور يكون الكسكسي قد فقد لذته، ولم أسمع أن الكسكسي يؤكل في صحاف كالشربة فهنا فقد الكسكسي نكهته وقيمته التراثية!! وكان الوجوم مخيما وحديث السفير كان مقززا وغير مترابط وكأن لا بد له من الاستعانة بكلمة فرنسية داخل الجملة العربية ك«داكور» وغيرها حتى أن السامع كان يستغرب من الخلط الموجود باللغة والمستفز، لماذا هذا؟ وقيل «دارهم ما دمت في دارهم» فمعرفة تقاليد وعادات الدول شيء ضروري ولا بد لأي سفير أو سياسي ينوي الإقامة بالخليج بالذات ولأنني أعيش فيه منذ أكثر من ثلاث عشرة سنة أن يكون ملما بها بل عليه أن يأخذ حصصا في ذلك، فهكذا تفعل بعض الأممالغربية، فعلمه باللغة لا يعني فهمه للعقلية فالعقلية هي اللهجة الآن فللكمات المحلية من الطرفين معان مختلفة أو حتى مقابلة لها أو قبيحة فيها نشوز لا يعرفها الضيف التونسي أو الإماراتي فعليه أن يكون ملما بكل نواحي اللغة واللهجات والحياة لتكون رادفا يمخر به عالم العلاقات والسياسة. تبقى العقلية الخليجية والإماراتية خصوصا رغم مظاهر التحضر والتمدن بدوية، هم يعتزون ببداوتهم -وهذا سبب آخر لنجاحهم ولنجاح الأمم- فهم يعشقون الفن واللغة فمن أجادها فقد استقامت له الحياة ولعهم بالشعر كبير فكل يردده ويكتبه فلم يغيروا أو يبدلوا تبديلا ولهذا قصة أخرى. على كل التركيز على الاخوة العربية والنجاح فيها أصبح شيئا لا بد منه وهو من أولويات العمل الآن، فالخليجيون بحسن إدارتهم لأموالهم في العقول وفي البذور وفي الحجر ونجاحهم في استثمارها قد كسبوا العلم والتقدم وتقاليده نعم فللعلم تقاليد وذلك في سنين معدودة، فمثلا أنت ترى مظهر المدن الخليجية أجمل من بعض المدن الأوروبية ولا أزايد هنا بحكم أنني عشت ردحا من الزمن بأوروبا وبأجملها مدنا، هذا النجاح كله يدار بأدمغة خليجية وليست أجنبية صحيح أن العمالة أجنبية لكن المدراء والمهندسين هم من الخليج وبالذات بالإمارات العربية المتحدة إذ تحس في هذا البلد أن فيه عملا دؤوبا متواصلا متصلا نابعا من الذات الإماراتية رغم القيمة العددية المهولة للجاليات الآسيوية وسنتوسع فيه في مقام آخر، سيكون التعاون البيني بين تونسوالإمارات إذا استغلناه على أحسن الوجوه ذو نتائج باهرة جدا في الاتجاهين وبعقول مفتحة غير متزمتة وبتواضع ملموس، فعلى من سيتولى السفارة عليه أن لا يكون نكرة حديث العهد بالبلد فكم سيلزمه من الوقت لكسب الأصدقاء وكم لكسب الثقة.. فالسفير هو تونسي لكن بعقلية البلد الذي سيعيش فيه وهذا ليس سهلا فخلاصة القول أن السفير ليس للتعليف بل للتشريف. مترجم (الإمارات العربية المتحدة)