في فرنسا، وبعد أن فرضت السلطات في العام الماضي نقاشا حول الهوية الوطنية الفرنسية في سياق لم يخف رغبة في منافسة اليمين المتطرف ها هو اليمين الحاكم يحاول فرض نقاش آخر حول «اللائيكية ومكانة الإسلام في فرنسا» وذلك بالطبع بعد التقدم الذي أحرزته «الجبهة الوطنية» اليمينية المتطرفة. قد يتبادر إلى الأذهان أنني بصدد مناقشة قضية فرنسية بحتة ولكن سأبحث في مسألة من صميم الواقع التونسي غير أنني ارتأيت أن يكون أفضل مدخل لها ما يحدث في فرنسا وتحديدا الكشف عن أسلوب تحويل القضايا الجوهرية المطروحة نحو مسارات تتجاوز نطاق الحوار إلى الاستعمال السياسوي البحت. فقبل بضعة أيام ظهر الشيخ عبد الفتاح مورو في إحدى القنوات التونسية طارحا جملة من المواقف لقيت استحسانا لدى الكثيرين باعتبار أن الرجل أظهر من الاعتدال والحكمة و»سلاسة» التفكير ما جعل على الأقل جانبا من المتخوفين من الإسلاميين يشعرون بالطمأنينة بخصوص بعض القضايا المثيرة لجدل تقليدي منذ حوالي ثلاثة عقود مثل المرأة وبالأحرى مجلة الأحوال الشخصية واستعمال المساجد في الدعاية السياسية والعلاقة بالعلمانيين.. كل ما قاله الشيخ مورو لقي استحسانا ولو بدرجات متفاوتة عند قطاع من المشاهدين والخائفين والمتخوفين والمشككين. .. لكن لم تمض 24 ساعة حتى أعاد الشيخ مورو البلبلة إلى الأذهان في خطبة بجامع في ضاحية مقرين كانت الشقيقة «الصباح» قد نشرت فحواها في عددها الصادر يوم السبت 26 مارس 2011 وذلك عندما ألقى ما اعتبره الشيخ مورو خطبة دينية كانت أبرز رسالة فيها أن «الدستور هو الإسلام.. ولا تنتخبوا أشخاصا لهم عداوة مع الدين».وقد أثارت تلك «التصريحات» أوالأقوال أوالمواقف أوتلك المواعظ ردود فعل أولية جاءت منتقدة ورافضة حيث رأى البعض أنها «قراءات قديمة منذ السبعينات والثمانينات» ودعاية سياسية وتحريضا على الذين لهم عداوة مع الدين. وهنا لا بد من التوقف عند ردود الفعل المشار إليها والتحسب لتفاعل المسألة حيث يفترض أولا أن لا تكون هناك ازدواجية في الخطاب السياسي سواء كان في اجتماع عام أو في حديث صحفي أواجتماع حزبي - بالطبع مع استثناء المساجد- وثانيا تجنب كل ما يمكن أن يعد من قبيل التكفير والتخوين وإثارة الفتنة . وإذا كانت الجهات اليمينية في فرنسا قد طرحت قضية» اللائيكية ومكانة الإسلام» فيها من منطلق ضيق وعلى أساس انتخابي بمحاولة استمالة أنصار اليمين المتطرف فإن الدين لا يجب أن يكون محور قضية في تونس ولا بد من الحذر عند تناول جوانب ذات علاقة بالدين في حياتنا وفي مجتمعنا والحذر من المغالاة في نقد الفكر الديني إلى حد الإسفاف . إن الفترة المقبلة توحي بتطورات قد تجعل زمام الأمور تفلت من يد مكونات المجتمع المدني نظرا لحساسية الظرف فهناك أحزاب من مشارب فكرية وسياسية مختلفة وقد تجرها الرغبة الجامحة في البروز وتبوّؤ مكانة معتبرة في الساحة السياسية وإرادة التزعم إلى الغلو والشطط فيما يتعلق بمسائل لم تختمر بعد ولم تنضج لدى الرأي العام التونسي سواء بدعوى الدفاع عن الدين أوبدعوى متطلبات العلمانية وغيرها من التيارات الفكرية. ومن الخطإ حصر القائمين على الأحزاب برامجهم في مسائل تبدو خلافية لا يرجى منها سوى الإشعاع والانتشار في الأوساط الشعبية والحال أن هناك فقرا واضحا لدى جانب كبير من الأحزاب المرخص لها والبالغ عددها حاليا الخمسين حزبا فيما يتعلق بالبرامج الحزبية. فكم من حزب أعد برامجه وحدد مواقفه ومشاريعه بخصوص جملة من المسائل التي تهم المواطن وشؤونه اليومية؟ وكم من حزب طلع علينا بخطط للتشغيل والحد من المديونية والنهوض بالوضع الاقتصادي المتردي؟ وكم من حزب تحدث عن إصلاح التعليم بمستوياته الثلاثة الأساسي والثانوي والعالي؟ وكم .. وكم... في تونس لا نريد أحزابا تتعامل مع الشعب أو مع قواعدها بطريقة فوقية تفرض فيها نوعية «المعارك» التي تريد خوضها وتتغافل عن معارك أخرى أكثر أهمية بالنسبة للمواطن التونسي. كما لا نريد أحزابا تبقى رهينة التنظير لتصبح مجرد حلقات تفكير تحلق فوق مشاكل الشعب وتطلعاته ولا تنزل إلى معترك الحياة ل«تفرّك الرمانة» التونسية التي بسبب كل محتوياتها وتراكماتها واحتقاناتها انفجرت الجماهير الشعبية مطالبة بالكرامة في شتى تجلياتها.. نعم الكرامة وليس من أجل اختبار مدى تمسك التونسي بدينه واللعب على هذا الوتر الحساس أومن أجل اختبار التونسي لمدى قابليته للتعايش مع مفاهيم من قبيل العلمانية واللائيكية. خلاصة القول لا نريد أحزابا تستعمل وقود الثورة (حتى لا نقول تركبُها) من أجل هدف وحيد هو الوصول إلى الحكم، فذلك أمر فيه الكثير من الانتهازية ويثير الريبة لأنها قد تؤدي إلى الإنفراد بالرأي ويعيد أخطاء الماضي المستمرة منذ الاستقلال.. ولا نريد أحزابا تتاجر بالهوية أو تستغل انفتاح الأفق عند المواطن التونسي لتتبارز في ساحة سياسية مازالت لم تنضح كامل مقوماتها بعد. .. نريد حياة سياسية فيها من الأخلاق ما يجعل المواطن مطمئنا بصورة عامة لتلك الحياة التي كانت في الماضي نسخة من صورة حقيقية, أصبحت نمطية في العالم الثالث.. حياة سياسية نظيفة من كل شوائب الديمقراطيات العريقة المفتقرة إلى الأخلاق, وهي التي أصبحت فيها مقولة «لا أخلاق في السياسة» بديهية.. وعندما ندعو إلى الأخلاق في العمل السياسي بتونس يدرك الجميع المطلوب ولا فائدة في توليد إشكالية نحن في غنى عنها محورها «تعريف الأخلاق» والدخول في نفق فلسفي لا آخر له.