*بعد سقوط الُّسلطة المتسلّطة وإعادة انتشار التونسيّين على مساحات الحقوق المسلوبة تشكّلت المنابر على طول البلاد وعرضها لتستوطن الفضاء العمومي الذي طالما حُرمَت منه وتُعيد صياغة الذّات الإجتماعيّة والسياسيّة في هذا الحَرَم العمومي المُحرَّر... إنّنا اليوم نشاهد إعادة تشَكُّل للمُواطَنة الحديثة على أساس الصِّراع التقليدي والجدلي في المجال السياسي بين بُعْديْه الخاص والعمومي. من ذلك تعدّد ظاهرة الإعتصامات المتواترة داخل البلاد وفي العاصمة («القصبة 1 «، «القصبة 2»،...) والتي تُعتَبرُ من تجلّيات هذا الصّراع الذي لا يُعبّرُ على «الفَوْضى» ، كما يرى البعض، بقدْر ما يُعبِّرُ على مُفردات هذا الصّراع لِيَرسُم حدُود «الذاتي» في «المَحصول». إنّ إعادة الإنتشار التي يشهدها الفضاء العمومي من لَدُن التونسيّين والذي طالما كان «مُخوْصَصًا» من قِبَل السّلطة القمعيّة، مُستباحًا من أجهزة البوليس التي اعتبرتْه ساحة سجن وغنيمة حرب لها ولسلطانها. إنّ الخروج اليومي للمعتصمين إلى الساحات العموميّة هو كخروج صاحب المَطْلبيّة الحقوقيّة إلى المؤسّسة أو مؤسّسات الدّولة لاستِرداد حقّ أو تحقيق مَطلب فهو تمرينٌ يوْمي للمُواطَنة النّاشئة في رَحِم الثورة والحريصة كلّ الحرْص على عدَم التفريط في الفضاء السياسي والمجال العُمومي المُحرَّر لأيّ سُلطة أو قُوّة مُتربّصة به وسيبقى هذا الهاجس ماثلاً ومُتجلِّيًا في عِدّة مظاهر إلى أن تَتِمّ عمليّة الإنتقال من مرحلة «المحْصول الثوري» إلى مرحلة التأسيس الدستوري والديمُقراطي للدّولة، وتحديد مجالات مُواطِنيّتها الحديثة كشكلٍ من أشكال الذّات الإجتماعيّة والسياسيّة المتطوّرة. وإلى أن تَتمّ عمليّة إرساء القوانين الضّابطة لهذا الفضاء العمومي بعد استرجاعه من قُوى القمْع وحمايته من قُوى الردّة، نبقى نلحظ بعض المظاهر الشاذّة النّاتجة عن بعض التشوُّهات في المفاهيم والرُّؤى فظاهرة البناء على الأراضي العموميّة والانتصاب الفوضوي للباعة المتجوّلين بالطرقات والأرصفة والساحات العموميّة هي أحد رُسوبات الثقافة السياسيّة للنظام المُستبدّ البائد الذي لا يرى في الفضاء العمومي المادي والحقوقي إلاّ مَغْنمًا لِصاحبِ القُوّة والبأس. وعلينا اليوم في هذه الفترة الإنتقاليّة الحرجة أن نَحرِص كل الحِرْصّ على ألاّ تكون المناداة النبيلة للحكومة المُؤقّتة باسترجاع «هيْبة الدولة» «حِصان طروادة» تستعمله قُوى الردّة للإستحواذ من جديد على الفضاء العُمومي لأنّه من الرّهانات المركزيّة لبناء مدينة المُواطنين وإرساء التقاليد الدّيمقراطيّة الحقّة. في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ بلادنا وجَب علينا التجنُّد لحماية المحصول من الهَبّة الفوْضويّة المُتْلِفة لهُ تمامًا كأثَر الهيْبة المُفْرَطة للدوْلة. هي دعوةٌ إذا لكُلّ الأطراف للحِفاظ على هذا المحصول لننْتقل من مُجرّد الإنخراط في التاريخ الحديث إلى درجة الفعل فيه. ويبْقى لِرجُل الدّولة اليوم شَرَف هذه المسؤولية التاريخيّة والمِفصليّة للمُرور بتُونس وثورة تونس إلى برِّ الأمان بالالتحام مع نبض الثورة، واعتماد الحكمة، وكما قال القُدامى: الحِيلة أحيانًا في ترْك الحِيلة... * أستاذ مساعد للتعليم العالي وباحث في الأنتروبولوجيا