صالح عطية ثمة خطر حقيقي يتهدد الساحة السياسية والمشهد الإعلامي في بلادنا، بل ربما كان من «المعاول» الرئيسية لمحاولات هدم الثورة والنأي بها بعيدا باتجاه لا يخدم المرحلة المقبلة ولا يؤسس للمستقبل. فعلاوة على عديد المقالات والبلاتوهات التي تحرض على الانقسام صلب المجتمع، وتصنيف الحساسيات والأحزاب بشكل لا يختلف عن تصنيفات بن علي الأمنية والإستخبارية، التي شوه بها المجتمع التونسي وهمش بواسطتها المشهد السياسي والإعلامي على امتداد أكثر من عشرين عاما، تتسرب اليوم في الساحة السياسية أساليب ومقولات وتقييمات، هي أقرب للتفتيش في عقول الناس والنخب ومحاكمة للنوايا، أكثر منه ممارسات نقدية لأفكار ومقاربات ومواقف وسياسات وبرامج. فهناك «فوبيا» اللائكية، و«فوبيا» حركة النهضة، و»فوبيا» الإسلام السياسي، و»فوبيا» الديمقراطية، و»فوبيا» اليسار، و»فوبيا» التجمع المنحل، بحيث تحول المشهد إلى ساحة للتراشق بالنعوت والأوصاف، باسم الحرية والديمقراطية والثورة، وبالطبع إذا ما حاول المرء الوقوف ضد هذا التيار، الذي لا يخدم إطلاقا حرية التعبير، ولا يؤسس لمنطق ديمقراطي حقيقي، يوصف لدى هؤلاء، بالمعادي للديمقراطية والثورة، هذا إذا لم ينعت ب«الرجعي» أو «اليساري المتطرف»، أو «الليبرالي العميل»، أو ما شاكل ذلك من تهم وأوصاف، وكأننا نستعيد مقولة الرئيس الأميركي السابق، بوش الإبن الذي رفع قبيل الحرب على العراق، شعار «من لم يكن معي فهو ضدي». إن الديمقراطية لا تتجزأ، وليس لها لون محدد، كما أن الحريات ليست حكرا على هذا الطرف الفكري والسياسي دون غيره، وثورتنا العظيمة لم تقم على خلفية البطالة والتشغيل والحرمان المادي فحسب، بقدر ما نهض الشعب ضد الإقصاء والتهميش والخيار الحرّ أيضا. لا ينبغي أن نسمح بعودة ثقافة الإلغاء، ومنطق «إش يا ذبانة ما ثمة في الساحة كان أنا»، وسياسة «التصنيف الأمني» التي ما تزال تعشش في عديد العقول التي كانت بالأمس القريب، تقود منهج الاستئصال في المجتمع وفي المشهد السياسي، جنبا إلى جنب مع الرئيس المخلوع، بذريعة حماية ديمقراطية بن علي الزائفة، وهي اليوم تريد أن تقوم بذات المهمة مستفيدة من مناخ الحريات السائد في البلاد، بداعي حماية الثورة والديمقراطية،لأن هؤلاء لا ينظرون للحريات كقيمة كونية وإنسانية، بقدر ما يتعاملون معها من منطلق إيديولوجي وسياسي ضيق، لطالما عانت منه البلاد لفترة طويلة، وتسبب في مآزق سياسية وفكرية وإعلامية ربما احتجنا بضع سنوات لكي نتجاوزها. إن شباب تونس الذي قام بالثورة، لا يريد من هذا أو ذاك من أطياف العمل السياسي أن يمارس التخويف أو الإرهاب، وإن تغلف أصحابه بالمنطق الديمقراطي والتحرري. لا لتخويف التونسيين بعضهم من بعض، ولا لتحويل السياسة إلى مصدر إزعاج، ولا لوأد تطلعات المجتمع نحو التحرر الحقيقي بمختلف أبعاده، بعيدا عن أوهام الإيديولوجيا والحسابات الحزبوية، ومنطق الغنيمة السياسية التي لا ينبغي أن تهيمن على خطابنا السياسي، فتحيل السياسة والإعلام وحرية التعبير إلى جحيم بدل من أن تكون حديقة يستنشق التونسيون، كافة التونسيين رحيقها.