أيّ دستور نريد؟.. هذا السؤال يتردّد بإلحاح وبإصرار في المشهد السياسي... والآمال معلقة على المجلس التأسيسي المزمع انتخابه يوم 24 جويلية القادم، باعتبار أن المهمة الأساسية لهذا المجلس وضعه لدستور جديد للبلاد يلبّي طموحات الثورة... وقد بادرت بعض النخب والكوادر التونسية المهتمة بالشأن السياسي باقتراحات للمساهمة في بلورة دستور جديد، لعل أهمّها ما أطلق عليه «مبادرة المواطنة» التي أصدرتها مجموعة من المثقفين، بينهم فاضل موسى عميد كلية الحقوق والعلوم السياسة بأريانة... وانطلاقا من شعور الكوادر التونسية المختصة بدورها في هذا الصدد، ومساهمة منها في تفعيل المشهد السياسي، وتأثيثه بمقترحات تلبّي تطلعات ورغبات المواطن التونسي بعد تخلّصه من الاستبداد والدكتاتورية، أطلقت مجموعة من أساتذة القانون الخاص والعام بكلية الحقوق بصفاقس مبادرة جديدة، يمكن أن نطلق عليها إسم «دستور ثوري وتأصيلي». وقد اتصل بنا الأستاذ نعمان الرقيق أحد افراد هذه المجموعة، وهو أستاذ محاضر في القانون الخاص بكلية الحقوق بصفاقس، مؤكدا أن مجموعة مهمة من الأساتذة الجامعيين بالجهة، دأبوا على الاجتماع يوميا تقريبا، ولمدة شهرين... وبعد نقاشات مستفيضة اتفقوا على إصدار هذه المبادرة الممضية من طرفه، ومن الأستاذين سامي بلحاج وفائز قطاطة، وهي مفتوحة للجميع للإمضاء عليها... وتتمحور هذه المبادرة حول المقترحات الموالية: بما أن المجلس التأسيسي الذي سيتم انتخابه يوم 24 حويلية القادم، هو نتاج ثورة شعبية طالبت بالكرامة والعدالة الاجتماعية والحرية والديمقراطية، فهو مقبل على صياغة دستور نطمح أن تتوفر فيه الميزتان الرئيسيتان التاليتان: أن يكون ثوريا، وأن يسعى إلى التأصيل. I دستور ثوري ثوري من حيث صياغة المفاهيم. «يجب أن تقطع صياغة المفاهيم في الدستور الجديد مع الطريقة القديمة وذلك بأن تبرز طابعها المركب والمتداخل. فالمساواة بين المواطنين بقطع النظر عن جنسهم ولغتهم، وانتمائهم العائلي وظروف ميلادهم قيمة ثابتة ومؤكدة، لتحقق جوانب كبيرة منها حاليا. وهي قيمة لا يتمتع بها المواطنون بطبيعتهم فحسب كما توحي بذلك الصياغة الحالية للفصل 6، بل قيمة يجب أن تلتزم الدولة بتحقيق شروطها. فتفعيل الحق في الصحة، وفي التعليم وفي الشغل يتطلب مثل هذا الالتزام. ويمكن أن نتصور الصيغة التالية «كل المواطنين متساوون أمام القانون». ويضمن القانون تمتع المواطنين بنفس الحقوق وتحمّلهم نفس الواجبات بقطع النظر عن جنسهم أو دينهم أو لغتهم أو ظروف ميلادهم أو جهاتهم كما يضمن حماية حقوق الطفل وذوي الاحتياجات الخصوصية والمسنين. كل ذلك وفق ما تضمنته المعاهدات الدولية». ثورية من حيث الحقوق المعترف بها من الضروري أن يتضمن الدستور حقوقا لم تكن لها سابقا قيمة دستورية ثابتة كالحق في الشغل والحق في المسكن والحق في الصحة والحق في التعليم والحق في بيئة سليمة والحق في الإضراب مع إدراج الطابع التضامني بين الأفراد وبين الجهات لإقرار هذه الحقوق. ويمكن أن نضيف كذلك الحق في حياة عائلية طبيعية قوامها المساواة والتعاون بين الزوجين وحماية حقوق الأطفال بما يضمن تألق أفراد الأسرة، وحق الأجيال القادمة في تقرير حقوقهم بما يعني عدم تغوّل الأحزاب وعدم المبالغة في الاقتراض والحرص على الحفاظ على خيرات البلاد وثرواتها. ثورية بتجذير المبادئ الدستورية المعتمدة سابقا: تتعلق هذه المبادئ بإرساء دعائم الديمقراطية ودولة القانون والمؤسسات في إطار نظام جمهوري ويمكن أن نذكر: أولا: إقرار مبدأ استقلالية السلطة القضائية بصراحة، إذ التعرض الى استقلالية القضاة لا يكفي لضمان علوية القانون. ويتم هذا المبدأ بتمكين القضاة من السيادة على المجلس الأعلى للقضاء. ثانيا: التنصيص على اللامركزية الإدارية وعلى مبدإ تمثيلية هياكلها وانتخاب أعضاء الجماعات العمومية المحلية وإقرار قاعدة استقلالها وإشراف الدولة عليها لضمان وحدة التمشّي في اتجاه التنمية وتفعيل التضامن بين مختلف هذه الهياكل والدولة ضمانا للعدالة بين الجهات. ثالثا: إقرار مبدأ مراقبة دستورية القوانين من قبل محكمة دستورية تتعهد بمراقبة قبْلية وأخرى بعدية للقوانين. رابعا: إقرار مبدأ شفافية الإدارة بما يضمن حق المواطن في المعلومة لتحقيق جودة آدائها. II دستور تأصيلي من الضروري أن يؤصّل الدستور هوية الشعب التونسي وهوية دولته ويحدد كذلك مصادر القيم التي تنهل منها القوانين. فالشعب التونسي شعب متمسّك بعروبته وبدينه الإسلامي المتضمّن لقيم التضامن والتسامح والاعتدال ومتمسّك كذلك بالمبادئ الواردة في المعاهدات الدولية والتي تعكس قيما انسانية ساهمت كل الشعوب على مرّ التاريخ في بلورتها سواء كانت تلك القيم متعلقة بالحقوق المدنية والسياسية للأفراد أو مرتبطة بحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية أو غيرها. ويمكن للدستورأن يعبر عن هذه الهوية الثرية: أولا: بالتنصيص صلب الديباجة على أن الشعب التونسي متمسك بعروبته وبتعاليم دينه الإسلامي السمحة. ثانيا: أن تتضمن أحكامه إقرارا بأن الدولة التونسية دينها الإسلام فتشرف على شؤون الدين. ثالثا: أن ينصّ على أن المعاهدات الدولية المصادق عليها تعتبر مرجعا ملهما للمشرّع كأن يقع التنصيص على المعاهدات الدولية لحقوق الطفل المؤرخة في 20 نوفمبر 1989 عند التعرض إلى الحق في حياة عائلية طبيعية أو على العهد العالمي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المؤرخ في 16 ديسمبر 1966 أو غيره عند التنصيص على المساواة. وميزة المنهج الأخير أنه يحقق الاستقرار القانوني بتوحيده لمرجعية تأويل النص القانوني كما يضمن استمرار التواصل مع القيم الإنسانية التي نشترك فيها مع الحضارات المتقدمة هذا فضلا عن أن شعارات ثورة 14 جانفي 2011 جاءت مكرّسة لهذه القيم وهي الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية».