أبطأت عن تحرير المقالات إلى أن كان من أمر ثورات تونس ومصر وليبيا، ما كان وسيكون في سائر البلدان الأخرى، المجاورة، عملا بحكمة : تعلّم حسن الاستماع كما تعلّم حسن الكلام، حتّى لا يرجع المرء من حقّ إلى حقّ ولا ينتقل من حقّ إلى ظنّ، وألاّ يعاند الحقّ إذا كانت المعرفة به عيانا إلاّ أن تكون المعرفة به استنباطا. ومن حاصل المعرفة بدلائل الثّورات وعلاماتها أنّ «كلّ بناء لم يوضع على قاعدة فهو منهار، وكلّ أساس خلا عن بناء وعمارة فهو قفر وخراب» (الخطابيّ: معالم السّنن- البغداديّ: الفقيه والمتفقّه)؛ ومن تجارب الأمم (مسكويه) «أنّ التّدبير إذا بني على أصول خارجة عن الصّواب ، وإن خفي في الابتداء، ظهر على طول الزّمان ؛ ومثل ذلك مثل من ينحرف عن جادّة الطّريق انحرافا يسيرا، ولا يظهر انحرافه في المبدإ حتّى إذا طال به المسير بعُد عن السّمت، وكلّما ازداد إمعانا في السّير زاد بُعده عن الجادّة، وظهر خطأه وتفاوت أمره...» ولذلك كان من الأجدى أن أبدأ من قضايا الثّورة بالأهمّ، وأن منها ما أنا له أنشط،وعليه أقدر، وبه أعنى. ومن الشّائع والسّائد أنّ الثّورة من أحلام العظماء، ومن تفكير الأفذاذ، ومن إعداد صنّاع إرادة الحياة وأصحاب العزم، وأنّ تنفيذها من أداء من تغلب عليه الشّجاعة قبل الرّأي، وأنّ ثمارها من مكاسب الجبناء والضّعفاء والمتروكين. ولذلك لن أعنى بالشّعارات الجاهزة والجوفاء والإيديولوجيات العمياء والصمّاء، ولا بأصحاب الفقر الذّهنيّ من أنصاف المثقّفين ، ومن الانتهازيّين الجدد، والوصوليّين المتحايلين على العقلانيّة والحداثة، والمنحرفين عن تاريخ الأمّة وهويّتها، تكوينا وتحصيلا وسيرة، رغم جلبتهم وشغبهم في وسائط الاتّصال وأنظمة التّواصل، الحديثة والفعّالة، وما يحدثونه من تضليل وتشكيك وتزوير وبطلان، لأنّنا سنكشفهم في وقت لاحق واحدًا واحدًا بالحجّة والدّليل والوثائق التي نحفظها منذ التّسعينات والتي تشهد على استبدادهم، وجورهم، وولاءاتهم القاهرة ، ولجانهم الباطلة، وأقنانهم من الضّعفاء والمتروكين في الجامعة التونسيّة، عموما، وفي كلّيات الآداب، خصوصا، وفي أقسام اللّغات، بصفة أخصّ. إلى حدّ أنّ باحثين شبّانا كثيرين حصلوا على شهادة الماجستير أو الدكتورا الموحّدة ثم تنصّلوا من مضامين أبحاثهم ونتائجها المغشوشة والمغلوطة التي أجبرهم عليها المعدودون، عندي ، من مجرمي الفكر وأعداء الحرّية الفكريّة ومغتصبي الإرادة البشريّة ومحرّفى الثقافة العربيّة الإسلاميّة، عن دراية ، وبدافع حريّة البحث العلميّ واكتساب السّلطة العلميّة بالجرأة على مقدّسات الأمّة والقطع مع التّراث ، ما داموا متسلّطين على اللّجان وناجحين، عددًا وإدارة، في إقصاء أهل الاختصاص، والأمثلة على ذلك معدودة ومضبوطة، ويمكن أن يتحقّق منها، وثائقيّا وتاريخيّا. وسأتولّى، بصفة ملحّة وعاجلة، النّظر ، وإبداء الرّأي ، في حلول، أراها ترقى بمطالب الثّورات الشّعبية الشّبابيّة التي تعيشها شعوبنا المغاربيّة بطرائق متعدّدة ، وتؤدّيها بأساليب متنوّعة، وتصوغها بكيفيّات رائعة، وتحقّق أهدافها بدرجات متفاوتة، في تونس ومصر وليبيا، منطلقا لما سيلحق بها، عاجلا أو آجلا، إن شاء الله. وأقصد انخراط الشّباب في فرض مسلكيّة وحدة اقتصاديّة واجتماعيّة وتربويّة، مغاربيّة ، ترقى بمطالب الثّورة إلى أصولها التّاريخيّة القديمة والموصولة بالقرون الثّمانية الهجريّة الأولى التي عرفت سيادة الحضارة العربيّة الإسلاميّة في إقليم شمال إفريقيا ثم إقليم المغرب العربيّ الإسلاميّ، وتستأنف المقصد الأسمى لحركات التّحرير التي حقّقت إجرائيّا وميدانيّا- إن قليلا أو كثيرا، مظاهر تلك الوحدة المغاربيّة ، في مقاومة المستعمر، بأشكال مختلفة، داخليّا وخارجيّا. ولئن لم تجسّم حركات التّحرير مطلبها الأرقى والمصيريّ، الموحِّد والموحَّد، تجسيما فعليّا وحاسما، وعجزت الدّولة القطريّة والحديثة ، عجزا مأسويّا، عن الحسم، وارتبكت، وتردّدت، وتراجعت، وتواطأت، وتخاذلت، وخانت، لأسباب ذاتيّة بدافع الخصوصيّة، وخارجيّة بعامل التّآمر، فهاهي الفرصة التّاريخيّة تستعاد مرّة ثالثة كي ترسم الثّورات الشّبابيّة المغاربيّة مسلكيّة الوحدة وخطّية التّكامل، وينجح شباب اليوم بعد أن فشل شباب الأمس. ليس مطلب الوحدة المغاربيّة مطلبا طوباويًّا أو تقديريًّا أو افتراضيًّا ، بل هو مثال ممكن الوقوع، فضلا عن أنه سبق أن تحقّق تاريخيّا، مع المرابطين والموحّدين ، وكان في تاريخنا الحديث والمعاصر، من مقاصد حركات التّحرير، ومن نوايا الدّولة الحديثة ، ومن ظاهر استراتيجيّاتها المعلنة، على الأقلّ. وإذ توفّرت عوامل الفعل والإنجاز: عزم الشّباب واقتداره على التّنفيذ، ووعيه بسؤال المصير وبحدود المنزلة في الوجود، واقتناعه بالاشتراك في المصالح والمنافع، وتسليمه بوحدة التّاريخ والجغرافيا والاشتراك في الثقافة وتجانس التّركيبة الاجتماعيّة، وتأكّد التّرابط العضويّ بين الثّورات الشبابيّة في تونس ومصر وليبيا، في مرحلة أولى، من جهات شتّى، مباشرة وغير مباشرة، وبطرائق اتّصال مختلفة، وبكيفيّات في التّواصل مستحدثة، وبأساليب في الأداء والإنجاز معتبرة، كان لا بدّ أن تنهض محنة الثّورة الشبابية والشعبية إلى تحقيق الهدف الأسمى: هدف الوحدة الشّبابيّة المغاربيّة التي من شأنها أن ترقى بمنزلة الجماعة البشريّة المغاربيّة، جهويّا وعالميّا، اقتصاديّا واجتماعيّا وثقافيّا. وليكن الاهتمام بعناصر المجانسة والمؤالفة بين شباب المغربي العربيّ قطب الرّحى ومركز الثّقل، ولتكن عناصر المخالفة والمغايرة، السّياسيّة ، من مطالب أزمنة لاحقة وأجيال قادمة... على الشّباب المغاربيّ والثّائر على السّائد من الأوضاع البالية والأحوال البائسة، أن يتخطّى حواجز توازن الانحطاط، وأن يغيّر أحوال الاجتماع الإنسانيّ والعمران البشريّ بالمغرب العربيّ الإسلاميّ، وأن يعانق حركة الحياة وسرّ الوجود؛ وأن يغنم حريّة التّنقّل؛ وأن ييسّر حركته ببطاقة هويّة مغاربيّة ، وأن يفرض حريّة العمل والتّجارة وسيولة رأس المال، وأن يبارك التّصاهر والتّمازج والإقامة والملكيّة والدّراسة والمشاريع المختلفة، حتّى يتمتّع شبابنا بخيراتنا وبثرواتنا غير المتناهية، وكي نقيم بالفعل سوقا مغاربيّة غنيّة تنفتح على مجالاتها الحيويّة إفريقيّا وأوروبيّا... إنّنا في حاجة ملحّة إلى أن نقي شبابنا غائلة الأهوال ومصائب الارتحال إلى أوروبا، ومآسي الاغتراب الثقافيّ والحضاريّ، لتمكينه من تجربة القيادة، ومن تجربة البناء، ومن خطّة التّنمية الشّاملة، ثقة به واعترافا له بالقدرة على الفعل وبحرصه على إرادة الحياة. ولئن فشل شباب الحركات التّحريريّة في بناء صرح المغرب العربيّ وأعرض عن مصر، وإن كانت ذهنيّة الوحدة واضحة المعالم والآثار تصوّرا وإدراكا، وفشل شباب بناء الدّولة الحديثة لانحسار عقليّته في أسر الخصوصيّة ومناحي الذاتيّة الضيّقة والمتقيّدة بالوطنيّة الدّنيا، فإنّه بوسع شباب الثّورة ، في أيّامنا هذه، أن ينجح في مسعاه الوحدويّ المغاربيّ، لأنّه جمع، من طريق وسائط الاتّصال الحديثة وطرائق التّواصل العلميّة والفنيّة والتقنيّة، بين الذهنيّة الوحدويّة والموروثة عن أجيال معركة التّحرير، وبين العقليّة الإنجازيّة في الواقع والمتجاوزة للعقليّة النّظرية والموصولة تفكيرا بمؤسسات وقوانين وهيئات معطّلة ومعطّبة ، عموما، من جهة عجز الدّولة الحديثة، وبين منهجيّة تنظيميّة في التّواصل، مجدية وفعّالة، فضلا عن عطالة النّخب التي ساعدت شباب الثّورة على التّخلص من الوصاية وعقدة الحكمة والرّشاد والتّوجيه... لم تعد ثورة الشّباب محتاجة إلى تفلسف النّخب التي تجلّت مبهوتة ومنبهرة ولاهثة وراء سلطة وهميّة، ومرجعيّة كهنوتيّة، ومعايير سدنة أحزاب مهترئة ومتقادمة الهياكل، بل إنّ الثّورة الشّبابية دفعت الثّمن وانخرطت في مسلكيّة البذل والتّضحية وهي تحتاج إلى تحقيق غايتها القصوى ، لأسباب موضوعيّة وذاتيّة، في الوقت ذاته، أعني تأسيس هيئة شبابيّة ثوريّة مغاربيّة تلتئم، في مرحلة أولى من ممثلين مقتدرين، من شباب تونس ومصر وليبيا، يتبنّون تحقيق مطلب الوحدة المغاربيّة، اقتصاديّا واجتماعيّا وثقافيّا، وتظلّ هيئة شبابيّة منفتحة على شباب الجزائر والمغرب وموريتانيا، تتجاوز منطق الحدود الصوريّة، والموانع القانونية المتكلسة والمصطنعة، والعوائق النّفسية والمرضيّة. ويحسن ، في نظري، أن يتمّ الإعلان ، بشتّى الوسائل والوسائط المعتمدة والمتاحة، علميّا وفنّيا وتقنيّا، عن تكوين تلك الهيئة والإسراع بمؤتمرها التأسيسي، في أقرب الآجال، انطلاقا من تونس أو من مصر، وقد تكون ليبيا موقعا وسطا وملائما... لسنا في حاجة إلى التذكير بدور شباب الجزائر والمغرب وموريتانيا، ولا بانتماء مصر إلى إقليم المغرب العربيّ؛ ولسنا في حاجة إلى التذكير بالمنزع الإدماجيّ أو الاتحاديّ أو الوحدي في أوروبا وآسيا وإفريقيا على اختلاف أشكاله وأهدافه، في حالي السّلم والحرب، كما أنّنا لن نبتدع تنظيمات أو هيئات جديدة، ولن نحتاج إلى عقول مبدعة من خارج مغربنا العربيّ، ولن نطنب في مزايا تلك الوحدة، وفي قدرتها على الإجابة عن أسئلة الثّورة وعلى تقديم الحلول، ولن نكون، في الوقت ذاته، أوصياء على ثورة شبابنا ، ولا مثالا نخبويّا يحتذى، ولا دعاة إلى منوال يعتمد، لأنّ الشّباب الذي أنجز الثّورة دون إرشاد، قادر على أن يستنبط الحلول ويرسم معالم الطريق في تجربة الوحدة