بعد أن كان تابعا ومواليا ومشكوكا في نزاهة أحكامه، لا بد للقضاء في تونس بعد الثورة أن يحرر نفسه وينهض بدوره ويعدّل مساره.. وهو مدعو الآن وأكثر من أي وقت مضى إلى اتخاذ إجراءات فورية ومباشرة أبرزها تطهير نفسه من رموز السلطة المستبدة الظالمة الفاسدة التي استباحت الحرمات والملكية.. هذا أبرز ما تمت الإشارة إليه أمس في منتدى الثورة المنتظم بمؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات بحضور عدد من الحقوقيين والجامعيين.. وبين الأستاذ عبد الرؤوف العياّدي أن هذه الرموز مازالت موجودة إلى الآن في العديد من المحاكم وفي بعض المواقع بوزارة العدل وطالما ساهمت هذه الرموز إلى جانب البوليس السياسي في تكريس الدكتاتورية.. كما دعا الأستاذ العيادي إلى مراجعة تركيبة المجلس الأعلى للقضاء, نظرا لأن السبعة الكبار فيه يعيّنون بأمر وانتخابات أعضائه غير نزيهة تقرر وزارة العدل نتائجها. وللحد من السلبيات الناجمة عن تبعية المجلس للسلطة التنفيذية وفي إطار مراجعة تركيبته لا بد أن يكون فيه محامون وعدول التنفيذ. وبالإضافة إلى ذلك يرى الحقوقي ضرورة حذف خطة مدير المصالح العدلية لأنه يتدخل في شؤون القضاء.. ويدعو إلى إلحاق الضابطة العدلية بوزارة العدل وتكوين أعوانها وتأهيلهم ملاحظا تكرر الأخطاء التي ارتكبها هؤلاء.. ومن الإجراءات الطويلة المدى التي يتعين اتخاذها لإصلاح القضاء تحدث الأستاذ العيادي عن إعادة تأسيس القضاء على القيم.. وأشار إلى أنه لا يمكن للتونسيين أن يحققوا طموحاتهم التي قامت من أجلها الثورة وأهمها المساهمة في الحضارة الكونية دون إصلاح أوضاع القضاء. ولاحظ الجامعي في محاضرته أن ثورة 17 ديسمبر 2010 عدّلت العلاقة بين الحاكم والمحكوم, ومن المنتظر أن تعدل العلاقة بين الدولة التونسية وبقية بلدان العالم نظرا لأن لهيبها امتد ويمتد إلى بقية البلدان العربية وغيرها.. لذلك لا يمكن تقويم أوضاع القضاء دون تقييم علاقة الحاكم بالمحكوم من ناحية ومن ناحية أخرى ما هو منتظر من تغيرات على المستوى الدولي. وأضاف:"يعتمد وضع القضاء كمعيار لدرجة تقدم الديمقراطية في أي بلد ما, كما يوجد معيار آخر وهو ثقة الشعب فيه.. لكن القضاء في تونس عاش منذ بداية الاستقلال أوضاعا متدهورة جدا.. وضحاياه يعدون بمئات الآلاف.. وقد تحدثت الأستاذة راضية الحداد رئيسة الاتحاد النسائي في كتابها عن الضيم الذي تعرضت له بسبب قضية ملفقة.. وهرب الوزير الأول السابق محمد مزالي من العدالة لأنه يعرف أنها تقوم على التّشفي.. أما في عهد بن علي ونظرا لإدراك المخلوع أن العدالة في تونس هي عدالة التشفي والانتقام وليست عدالة الدولة.. فقد حرص في إطار تنقيح الدستور على تمتيع رئيس الدولة بالحصانة حتى بعد خروجه من السلطة". بناء المواطنة وقدّم المحاضر بسطة تاريخية عن القضاء في تونس وبين أنه كان في العهد الاستعماري مقيدا وتحت وصاية الإدارة وتصرف المدير العام للمصالح العدلية, ولم تقطع الدولة التونسية بعد الاستقلال مع ما كان إذ تمت إحالة تركة الإدارة الاستعمارية للوطنيين تحت مفهوم "التونسة".. وأصبح الوكيل العام للجمهورية يقوم مقام المدير العام للمصالح العدلية الذي كان في العهد الاستعماري.. ولعب القضاء خلال الفترة البورقيبية دورا سلبيا سياسيا منحازا على غرار ما تم خلال الفتنة اليوسفية. أما في عهد بن علي فقد استفحل الضيم وكانت فترة سوداء من الذل والاضطهاد واستباحة الحرمات والملكية، وأصبح القضاء في موقع الضنين المشكوك فيه, ونظرا لأن النظام لم يكن شرعيا وخوفا على نفسه من المواطن, أوجد جملة من التشريعات الجائرة على غرار قانون الإرهاب.. وإجابة عن استفسارات المشاركين في المنتدى أكد المحاضر على ضرورة الوعي بأهمية اللحظة وقيمة الثورة التي يجب أن يكون التونسي بعدها في موقع الشريك في نحت الحضارة الإنسانية وليس مجرد مستهلك.. كما أشار إلى أن أكبر إصلاح لمنظومة القضاء في تونس يكمن في توفيره الضمانات الكافية لبناء المواطنة حتى يتمتع المواطن بحقوق كاملة تمكنه من تقرير مصيره بنفسه. ودعا لتفعيل القيم في المجتمع معتبرا أن المجتمع بلا قيم هو مجتمع خاو. ضمانات القضاء المستقل أكد الأستاذ محمد صالح التومي على أهمية القضاء في حياة البشر وضمان التوازن والحد من البغي.. ولإصلاحه دعا إلى ضرورة الاستنارة بإيجابيات التراث القضائي في الحضارة الإسلامية وببقية التجارب الإنسانية الناجحة للفصل بين السلطات والابتعاد عن النظام الرئاسي الذي يمكن أن يتحول إلى نظام رئاسوي قصد التخلص من السلبيات والاستبداد والفساد ولبناء نظام قضائي جدير بالحركة الثورية يكون على أسس العدالة والحرية والمساواة الفعلية.. ولاحظ أن القاضي المستقل لا يمكن أن يحافظ على استقلاليته دون أن تكون هناك ضمانات منها الضمانات المادية.. وليكون القضاء مستقلا بالفعل لا بد أيضا من إخراج المجلس الأعلى للقضاء من تحت تصرف وزارة العدل ليصبح هوالمسؤول عن القضاء في تونس.. ودعا التومي إلى تكوين لجنة تفكير في القيم التي يجب أن يقوم عليها القضاء في تونس مستقبلا.. إضافة إلى ضرورة تخليصه بل تخليص النظام العدلي كله من رموز الفساد وكذلك الشأن بالنسبة للإعلام والإدارة والتحكيم.. بل عبر المحاضر عن رفضه للتحكيم الذي فرضته على حد تعبيره الشركات الأجنبية. احتفاء بالقاضي مختار اليحياوي تم خلال منتدى الثورة الإحتفاء بالقاضي مختار اليحياوي والتنويه باستقلاليته ونضاله وتمسكه بأخلاقيات المهنة. وفي كلمته بين القاضي اليحياوي أن تونس اليوم بحاجة إلى تصور وبناء جديد للمؤسسة القضائية.. ولاحظ أن واقع القضاء كان بعيدا كل البعد عن القيم والأخلاق وجاءت الثورة لإعادة الاعتبار لهذه القيم والأخلاق التي لا بد من التمسك بها وتجسيدها في التعامل مع بعضنا البعض. وأضاف:"عندما نتحدث عن القضاء نتحدث عن العدالة.. وهو مفهوم مرتبط بالأخلاق.. وفي الأنظمة الفاسدة المستبدة هو بعيد كل البعد عن الأخلاق وحتى في النظام الديمقراطي فإن دور القضاء ليس أخلاقيا بل جبريا يتمثل في فرض النظام القانوني وبالتالي فهو أبعد ما يكون عن مفهوم العدالة".. ويرى القاضي اليحياوي ضرورة إيجاد مؤسسة دستورية تكون مستقلة عن جميع مؤسسات الدولة مهمتها فرض القانون وليس العدالة. وتعقيبا عن الدعوة للاستنارة بالحضارة الاسلامية لإصلاح القضاء قال :"ليست لنا مصلحة في تناول تاريخنا القضائي الإسلامي وإن كانت فيه تجليات جيدة ولكنها استثناءات لأن حضارتنا قائمة على الظلم والقضاء فيها أبعد ما يكون عن العدالة بل قام على الفرض والجبر ولعل أول من تفطن إلى ذلك هو العلامة ابن خلدون الذي بين كيف أن الظلم يؤدي إلى الخراب.. وبالتالي لا ينبغي تشويه التاريخ بل يجب إدراك أن الثورة أعطتنا فرصة ثمينة للقطع مع عصور من الظلم امتدت على قرون طويلة".. وتحدث الأستاذ البشير الخنتوش عن العدالة الانتقالية وقال قبل الحديث عن المصالحة يجدر محاسبة كل من أخطأ في حق الشعب وتعويض المتضررين. كما دعا لتحسين رواتب القضاة واعتبار القاضي سلطة وليس أجيرا لدى الدولة. سعيدة بوهلال