بقلم: صالح عطية شدد رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في تونس أمس، على أن موعد انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، ستكون يوم 16 أكتوبر القادم، وهو الموقف الذي كان أعلن عنه كمال الجندوبي، رئيس الهيئة منذ يوم الأحد المنقضي في أعقاب مؤتمر صحفي ما تزال ظروفه محل تساؤلات واستفهامات في أوساط سياسية وإعلامية عديدة. وواضح من هذا الموقف الذي أعلنه الجندوبي أمس، أن الأمر بات يتعلق بقرار وليس مجرد مقترح كما كان في المرة السابقة، أي إن الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، دخلت على خط صناعة القرار السياسي في البلاد، وباتت بالتالي جزءا من المشكلة في وقت كان يعتقد أن تكون جزءا من الحل. فما هي الحيثيات التي بنت الهيئة بواسطتها قرار التأجيل؟
حيثيات ومعطيات
ثمة عوائق أساسية لا يمكن للمرء أن يتغافل عنها عند الحديث عن موعد 24 جويلية، وهي عوائق تتصل بجوانب فنية ولوجستية وإجرائية ليس بالإمكان إنكارها أو التغاضي عنها، ويمكن اختزالها في النقاط التالية: فترة ثمانية أسابيع التي تفصلنا عن الانتخابات، وهي فترة قصيرة بالنسبة لنوعية الانتخابات التي يتطلع التونسيون إلى تنظيمها، أي انتخابات بمواصفات ومعايير دولية، تتوفر فيها الشفافية والنزاهة، ومن شأنها التأسيس لانتخابات ديمقراطية لأول مرة في تاريخ البلاد. صعوبة تشكيل اللجان الفرعية المستقلة التي ستشرف على الانتخابات في مختلف الدوائر الانتخابية الموزعة على نحو 24 ولاية وأكثر من خمسة آلاف مكتب اقتراع، ما يعني أن إجراء الانتخابات في هذا المستوى، يقتضي ما لا يقل عن 24 ألف شخص، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار كون مكتب الاقتراع يقتضي ما بين 3 إلى خمسة أشخاص على أقل تقدير. أن هذه الآلاف ممن ستتولى الإشراف على مكاتب الاقتراع وإدارتها، تستوجب الخضوع لعملية تكوين قانوني وإجرائي، وهذا يتطلب بعض الوقت لانجازه. أن ثمة أوامر تطبيقية يفترض إصدارها خلال الأسابيع المقبلة، والوقت لم يعد يسمح بإعدادها وصدورها في الإبان. أن المعايير الدولية تقتضي ما لا يقل عن 22 أسبوعا للإعداد الجيد للانتخابات. أن تاريخ غلق باب الترشحات حدد بموجب المرسوم القانوني المنظم للانتخابات ليوم 9 جوان القادم، والفترة التي تفصلنا عن هذا الموعد، لا تتعدى 13 يوما، ما يعني أن ذلك غير ممكن بالنسبة للأحزاب، خصوصا تلك التي نشأت بعد الثورة. أن نحو 400 ألف تونسي ليست لديهم بطاقات انتخاب. من هنا، وعلى خلفية هذه المعطيات الفنية واللوجستية، قررت الهيئة المستقلة للانتخابات، ترحيل الموعد إلى السادس عشر من أكتوبر القادم.
الأحزاب: رؤية أخرى
في مقابل هذه المسوغات التي طرحتها الهيئة ولفيف من الشخصيات الوطنية والمراقبين، الذين تبنوا وجهة نظر الهيئة وراحوا يبحثون لها عن تبريرات، ترى الكثير من الأحزاب وقسم واسع من الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي، التي اجتمعت أمس، أن بالإمكان تنظيم الانتخابات في موعد 24 جويلية لاعتبارات كثيرة أهمها: أن فترة الستين يوما كافية للتوصل إلى إجراء الانتخابات، على أساس أن هناك تقاليد فنية وإدارة ولوجستية متوفرة، يمكن التأسيس عليها، عبر استبعاد آليات التزييف التي طبعت "ماكينة" الإدارة خلال عقود من الزمن. أن الحكومة والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، أعربت عن استعدادها الكامل لتوفير جميع الآليات والإمكانات البشرية والمادية والفنية للهيئة العليا للانتخابات، لكي تبدأ في عملها وتنجز الانتخابات. أن الهيئة العليا المستقلة ليست سوى هيئة إشراف على الانتخابات، أي إن دورها يتوقف على الجانب التنظيمي، وليست جهة قرار، لأن قرار موعد الانتخابات، قرار سياسي من مشمولات الحكومة والأحزاب بصفة خاصة. أن تأجيل الانتخابات إلى السادس عشر من أكتوبر، قد يفتح البلاد على احتمالات عديدة في المستوى الأمني والسياسي والاجتماعي، وربما تسبب في تأجيل استثمارات متوقعة يترقب أصحابها (رجال أعمال ودول)، توفر الشرعية في البلاد من أجل ضمان استثماراتهم وعدم وضعها رهن المجهول. ولعل أسئلة كثيرة مطروحة في عديد الأوساط السياسية بينها: لماذا اقترحت الهيئة تأجيل الانتخابات بشكل منفرد ولم تجر مشاورات مع الأطراف السياسية والحكومة؟ ولماذا ترشح الجندوبي وأعضاء الهيئة وهم يدركون منذ البداية أن موعد انتخابات المجلس التأسيسي حدد ليوم 24 جويلية، وبالتالي فإن جميع المعوقات التي تتحدث عنها الهيئة، كانت معروفة منذ فترة؟
التوافق.. التوافق
وعلى الرغم من هذه التجاذبات والمناكفات السياسية بين الهيئة والأحزاب، بل بين بعض الأحزاب أيضا، يبقى بالإمكان الخروج من المأزق السياسي الراهن، الذي يتخفى البعض وراء الجانب الفني واللوجستي، لكي يمرر والحق يقال أجندات سياسية لم تنبع من البيئة السياسية التونسية، ويجعل من مسألة التأجيل قدرا محتوما على جميع التونسيين. لقد بات من اللازم دعوة الجميع، أحزابا وحكومة ومجتمع مدني وهيئة مستقلة للانتخابات إلى طاولة حوار شفاف، يتطارحون عليها جميع الأفكار والمقاربات والسيناريوهات الممكنة، ومن المؤكد أن مختلف الأطراف عندما تجلس، وتضع نصب أعينها مصلحة البلاد ومصير الثورة وهاجس التونسيين، المتطلعون للشرعية والاستقرار والأمن، سيخرجون بلا شك بمعادلة جديدة من شأنها إخراج الوضع الراهن من عنق الزجاجة الذي وضعتها فيها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات. ويمكن للمرء أن يشير في هذا السياق إلى مقترح يجري تداوله في بعض الأوساط السياسية، مفاده، الذهاب إلى انتخابات لمجلس تأسيسي يوم 24 جويلية، لكن بعد تشكيل لجنة موسعة من القضاة والحقوقيين وفقهاء القانون الدستوري والشخصيات السياسية المستقلة، يقع تكليفها بإعداد نص الدستور الجديد، بحيث يتم استبعاد الدستور من التجاذبات المتعلقة بعضوية المجلس التأسيسي، فتخف الوطأة كثيرا على الانتخابات المقبلة. فلماذا لا يكون هذا السيناريو "مادة" أساسية لمفاوضات بين مختلف الفرقاء والمكونات السياسية والمدنية، من شأنها أن تفضي إلى توافق يتجاوز بنا المأزق الراهن الذي تبدو تونس في غنى عنه؟ فهل في قومنا رجل رشيد؟؟ نعتقد أن بيننا عقلاء وراشدون كثيرون يمكن أن ينتهوا إلى حلول وسطية بعيدا عن السيناريوهات "الحدّية" التي لا تؤسس لمستقبل، ولا تؤشر لبناء جديد، بل ربما كانت نسخة من مشروع بن علي الأحادي والإقصائي. اللحظة تاريخية.. وعلى الجميع تحمل مسؤولياتهم السياسية والوطنية..