في معرض رده على هجمات خصومه "السياسوية" البائسة، نطق كمال الجندوبي رئيس الهيئة العليا للانتخابات بجملة رائعة، علينا كتونسيين أن لا نتردد من باب التعالي و العجرفة- في كتابتها بماء الذهب، فحواها "لا يجب أن يحكم تونس من ليس في قلبه رحمة". شخصيا لم أحب كثيرا الأطروحات اليسارية، و ملت في أغلب الأوقات للأفكار الليبرالية الديمقراطية و الإسلامية التنويرية، لكن هذا لم يمنعني يوما من الشعور بالاحترام و التقدير لشخصيات يسارية، من بينها صاحب هذه الدرة السنية، درة رحمة تونس، و أثق جدا في نزاهته و استقلاليته و نضاليته، و أجد أن التنقيب في الحياة الشخصية للرجل، و الإشارة إلى نوع الشراب الذي يحب، إشارة خبيثة خسيسة لا صلة لها بالخوف على الديمقراطية أو شفافية الانتخابات و استقلالية الهيئة المشرفة عليها. و قد أعجبني استعمال الجندوبي لكلمة «الرحمة»، و هي كلمة غير قانونية و ذات دلالة دينية، بل لعلها الكلمة «الأعز» في الإسلام و عموم الأديان، وقد قرن الله مرتين في أسمائه الحسنى ذاته المقدسة بها، فكان «الرحمان» و كان «الرحيم»، و كان في مطلع كل سورة وآية و خلق ب»إسم الله الرحمان الرحيم»، و لا يمكن أن يكون الاختيار اعتباطيا، حاشاه تقدس إسمه في السماوات العلى، إنما هي رحمته المرسلة بخلقه، تماما كما جاء في الحديث الشريف «من لا يرحم لا يرحم». و من التحديات التي نواجهها كتونسيين بعد الثورة، أن يكون بمستطاع نظامنا السياسي إفراز ساسة قلوبهم مليئة بالرحمة على التونسيين، يشعرون بنبض الضعيف و معاناة الفقير و مأساة المحتاج و آلام العاطل عن العمل و اعتصار الأب الذي يرى زرعه أينع و لا معين على الحصاد. الرحمة مسألة قلبية باطنية شعورية لا يمكن اشتراطها ضمن لائحة الشروط التي يجب توفرها في مرشح للانتخابات، من قبيل السن و نقاء السجل العدلي و ارتفاع المستوى التعليمي، أو التيقن من وجودها عبر شهادة طبية أو أمارة جسمانية..وفي الدول الديمقراطية السابقة لنا، يستدل عليها كفضيلة أخلاقية من خلال التأمل في سيرة المرشحين، و ما يتكرر عنهم من حب للفنون و الشعر و الآداب و الموسيقى، لأن المحب لهذه الإبداعات البشرية لا يمكن إلا أن يكون رحيما. و شخصيا أريد أن أشهد شهادة في حق سياسي عرفته «رحيما»، و كم كنت أتمنى لو أن هذا الرجل أدرك الثورة و لو لستة أيام أو ساعات، فقد كان يفكر فيها و يتمناها..لكن كان لله إرادته، فرحل محمد مزالي دون أن يفرح بما أنجز شعبه..كان سي محمد أديبا مغرما بالشعر و الفلسفة والتاريخ، وكان محبا للمسرح و الفنون..و قد رأيته يبكي في حضرة ذكرى من أمر بشنقه..و رأيته يتأثر و يقول لإمرأة مشتاقة حرمها الحاكم المستبد من زوجها، من لا يرحم هذه المرأة لا شك أن قلبه حجر. لقد تعودنا على الحكام الظلام الغلاظ لقرون، وألفنا الساسة البغاة المراوغين الذين يرون في السياسة عملا مناقضا للأخلاق و معاكسا للرحمة و مرادفا للعنف و العسف والقسوة..و رأيي تماما من رأي مونتسكيو القائل «أنه ليس بالقوانين فقط تتحقق الديمقراطية، إنما بالفضيلة تؤازرها»، و من أعظم الفضائل التي يمكن أن يتحلى بها الديمقراطيون «الرحمة»، التي منها نتعلم عذر بعضنا البعض و التجاوز عن عورات بعضنا البعض و القدرة على التوافق فيما بيننا على مصالح شعبنا العليا والإيمان بحق بعضنا البعض بالعيش في بلادنا بكرامة و حرية.. لقد وسعت رحمته كل شيء، فهلا وسعت رحمتنا تونس الحبيبة، و كل من تقاسمنا معه الصفة التونسية، بل الإنسانية عامة. * كاتب و إعلامي تونسي