من بين القوى الضاربة والمنظمة التي برزت فجأة وبدون مقدمات مباشرة بعد انتصار الثورة الشعبية في بلادنا في 14 جانفي نجد على رأس القائمة السادة القضاة. إنهم اليوم على الميدان وبكل ثقلهم معولين على رمزية الوظيفة التي يمارسونها يسعون من أجل أن تكون الكلمة الأولى لهم والكلمة الأخيرة لم لا لهم كذلك وكأننا قد دخلنا في جمهورية القضاة بامتياز. صحيح لقد حررت الثورة الشعبية الأفواه والأيادي وفتحت الشهية حتى باتت الحركات المطلبية في تونس العلامة الأبرز الدالة علينا منذ أن وقع تخليص البلاد من الديكتاتورية ولكن ما يلاحظ أن الأمر استفحل إلى درجة تبعث على التساؤل. لا يبدو السادة القضاة عندما يعبرون عن مطالبهم وكأنهم بصدد التفاوض أو النقاش مع وضع كل الفرضيات على طاولة النقاش وإنما يبدون وكأنهم يقومون بعملية لي ذراع. إن القضاة هم الذين يستفيدون اليوم من حيز كبير من التغطية الإعلامية. فهناك وجوه سواء من النقابة أو من الجمعية باتت مألوفة بالنسبة للمشاهد أكثر حتى من نجوم الفن ذلك أنها تكاد لا تغيب عن شاشة التلفزيون يتحدثون من موقع القوة مستمدين قوتهم من أنهم يمثلون قطاعا مهما وحيويا. ولكن وإن كان من المطلوب أن يكون القضاء في أي ديمقراطية مستقلا بذاته وقويا باستقلاليته فإنه لا يعني ذلك أن يستقوي على باقي مكونات المجتمع أو حتى تصدر عنه مواقف من شأنها أن تقرأ على أنها كذلك والأمر ينسحب بطبيعة الحال على كل التنظيمات والهياكل المهنية مهما كان وزنها وثقلها في البلاد. من المفيد لمجتمعنا احترام وظيفة القاضي وشخصية القاضي الذي عادة ما يحتل مكانة مهمة في وجدان الناس وهي مكانة يستمدها من تاريخ مهمة القضاء التي يجلها الناس منذ القدم ويحمل تاريخنا العربي والإسلامي شهادات كثيرة على تقدير المجتمعات العربية والإسلامية لمن يحمل عمامة القاضي ولكن ليس من المفيد أن يبدو أي طرف اليوم بما في ذلك القاضي أعلى من القانون. إن مبادئ الجمهورية تعني أن الجميع سواسية أمام القانون وأنه لا مجال لكي يستغل أي طرف موقعه كي يبدو القوة الضاربة أكثر من غيرها حتى وإن كانوا قضاة. ما يمكن أن نفهمه أن نجد القضاة يسارعون إلى الاستفادة من المناخ السياسي الجديد بعد تحرر تونس من الديكتاتورية ليس فقط من أجل التعبير عن مطالبهم وإنما من أجل كسب أكثر ما يمكن من النقاط لصالح القاضي ووظيفة القاضي وقد كانوا قبل تاريخ 14 جانفي نادرا ما يتاح لهم التحرك وكانوا ملجمين وغير قادرين على تحرك فاعل ضد دولة الفساد. ولم يسبق لهم أن نفذوا إضرابا ولم يكونوا لوحدهم في هذا الوضع. فقد كانت الحركة مكبلة في تونس بأكملها ولكن ما لا يمكن أن نفهمه أو نستسيغه بسهولة أن نجد القضاة وكأنهم يريدون الجمع في تحركاتهم بين السياسي والقضائي أوهم في أقصى الحالات يسعون لوجود مداخل قانونية للجمع بين هذا وذاك. ومن الواضح أن أغلب تحركات السادة القضاة لا تكتفي بمطالب مهنية مشروعة بقدر ما تبدو ساعية كذلك للاضطلاع بدور سياسي ربما لا يجدر بهم أن يقوموا به نظرا لطابع وظيفة القضاء الذي يجعل جميع الأطراف تلتقي حولهم وتحكمهم فكيف للقاضي أن يكون طرفا في القضية. ربما كنا سنفهم مثلا مناهضة القضاة للقانون الجديد المنظم لمهنة المحاماة ( الحدث هذه الأيام ) وانتقاداتهم له مثلما هو متاح لكل مواطن أن يدلي بدلوه في قوانين البلاد ولكن من الصعب أن نفهم ردة الفعل الشرسة تجاه القانون. ربما لا نناقشهم في مسألة رفضهم للقانون لكن ظهور القضاة متحدثين باسم النقابة أو باسم الجمعية في مختلف منابرالإعلام وأحكامهم المطلقة تجعلنا نشعر أنهم ليسوا بصدد مناقشة أمرما وإنما بصدد إصدارحكم نهائي لارجعة فيه. وإن كان قانونيا من حق القضاة أن يمارسوا حقهم في الإضراب عن العمل فإننا نتساءل أخلاقيا هل من صالح المتقاضين أولا والمواطنين ثانيا أن يقع تعطيل سيرعمل المحاكم بالبلاد وكيف يمكن لمواطن يدفع من جيبه ( أموال المواطن المتأتية من الجباية بالخصوص) من أجل مهنة القضاء أن يستوعب مثل هذه التحركات التي تبدو في الظاهر تطالب بحقوق ومطالب نقابية وهي في الواقع تحاول فرض منطق القوة. فإن كان الصراع قائما اليوم بين السلطتين التنفيذية والتشريعية لماذا يضطر المواطن لدفع الثمن. وإن سلمنا بأن المواطن يمكنه أن يتحمل كل ذلك أي صورة يمكن أن نقدمها اليوم لمن ينتظر من تونس التي انطلق منها الربيع العربي أن تكون سباقة في تقديم الدروس في حل القضايا بالحوار. لا يكفي أن يرفق إعلان الدعوة للإضراب مثلا بالتعهد بما تمت تسميته مراعاة حالات التأكد حتى يبدو دعاة الإضراب في حل من كل مسؤولية أمام المتقاضين. إن مختلف التبريرات لردة الفعل السلبية تجاه قانون المحاماة تجعلنا نرجح أن الأمر لا يتعلق برأي بخصوص قانون جديد وإنما هي محاولة لاستعراض القوة وامتحان لمركز الثقل في الدولة والمجتمع. وهو أمر بات من قبيل المألوف في تونس منذ انتصار الثورة حيث بتنا أمام قلاع وحصون تشكلها المنظمات والجمعيات المهنية ومختلف الهياكل التي تحاول أن تستفيد من مناخ الحرية من أجل فرض كلمتها ولو كان ذلك ضد المصلحة العامة أي مصلحة الوطن. لنضرب مثلا على ذلك تبرير جمعية القضاة من خلال رئيسها لرفض مرسوم القانون عندما تحدث عن الثابت والمتحول. فهو يرى أن الحكومة الانتقالية ليس لها أن تحسم في أمور أصلية ولكن متى كانت الحكومات ثابتة ومتى كانت القوانين الوضعية نهائية؟ إن عديد المنظمات المهنية والهيئات السياسية وغيرها تتحرك اليوم بشكل يجعلنا نعتقد أن تونس باتت وكأنها حصونا وقلاعا وكل يتحصن في موقعه مستقويا بوظيفته السامية أو بشرعية نضالية ما أو بشرعية دينية وفكرية وإيديولوجية ويستغل الجميع الفراغ المتفشي على مستوى الإدارة التونسية بسبب غياب الشرعية في كل شيء. ملاحظة الواقع تجعلنا نصل إلى أننا لم نعد أمام الجمهورية التونسية وإنما أمام عدة جمهوريات نقابية وسياسية وقضائية وأمنية ودينية وغيرها في انتظار أن يتقشع في يوم ما الضباب وترتفع إرادة الشعب على الكل.