علم الاجتماع: "أسباب اقتصادية واجتماعية وثقافية وراء الظاهرة" أصبحت ظاهرة التسول منتشرة في جميع المدن والقرى كما اكتسحت كل الفضاءات التجارية والإدارية والترفيهية، بعد أن كانت تقتصر على الأسواق والمحطات الكبرى والمساجد. فأصبحنا نلاحظ التسول في الشواطئ والفنادق والمطاعم الفاخرة والمطارات وحتى المساكن والأحياء السكنية فالسائل يمكن أن يطرق باب منزلك ليستجدي منك ما يستطيع. كذلك تغيرت الصورة النمطية للمتسول فلم تعد تقتصر على المسن او المعاق او من كان في حالة رثة.. اليوم التحق بهذا "القطاع" الأصحاء من الكهول والتحق بهم الشباب والأطفال وحتى الجميلات من الفتيات وهو الوجه الثاني للتحيل. وهذا مؤشر على تحول سلوك التسول من تعبير على وضعية اجتماعية إلى قطاع يستقطب شرائح مختلفة من المجتمع. ظواهر غريبة استفحلت هذه الايام واصبحت لافتة أكثر من حيث تفاقمها، فهل يرجع ذلك لفشل السياسة الاجتماعية للعهد السابق حيث استفحل الفقر والتهميش لدى أفراد المجتمع وتفشي البطالة، أو لغياب الرقابة الأمنية مما سمح لبعض المنخرطين في هذه الممارسات لتحويلها إلى مهنة ومورد رزق سهل وقار خاصة وان مكاسبه كثيرة. "الصباح" رصدت هذه الظاهرة في شوارع العاصمة وتحدثت الى بعض المارة واول ما استرعى انتباهنا اثناء التجوال وجود طفلة لا يتجاوز عمرها 5 سنوات اتخذت من محطة المترو الخفيف بالباساج مقرا لها وهي تستجدي المارة للحصول على بعض الأموال. اقتربنا منها وبسؤالنا عن سبب وجودها أفادت بأنها تمتهن التسول رفقة والديها اللذين يمكثان غير بعيدين عنها وأنهم يقومون جميعا بهذا العمل ليحصلوا على ما يمكن أن يقتاتوا به آخر النهار، اما عن مكان إقامتهم فأجابتني بكل براءة بانها تقطن قرب مقر الكهرباء والغاز. احد المارة انضم للحديث وهو أنس الكناني (طالب بكلية الحقوق) وأفادنا بأنه لاحظ ازديادا مهولا في عدد المتسولين والمتسولات في العاصمة على الأقل في هذه الفترة. قال "طبعا كانت ردة فعلي الأولى أن رق قلبي وأخذت في توزيع ما قدرت عليه من المال على امرأة مسنة كانت تغرقني بالدعاء شخص آخر كشف لي عن إعاقته وثالث أراد أن يبيعني قسرا حصن حصين" فأعطيه القليل من المال دون أن أشتري "الكتيب". لكن بعد تفكير تخليت عن سذاجتي هذه وأغلقت عيني وأذني وشباك سيارتي. كللت ومللت من إعطاء المال لأناس وجدتهم يمتهنون التسول ويغيرون أماكن عملهم بطريقة دورية محكمة لا أظنني مخطئا إن قلت إن وراءها شبكات منظمة. بدورها تحدثت هند السديري (طالبة بكلية الآداب) إلينا قائلة أن هذه الظاهرة ليست مقتصرة على أشخاص منعدمين ماديا بل هي مقسمة على شبكات منظمة فلا حق لأي شخص آخر التدخل في منطقة عمل الآخر وأضاف أنه عندما كان في "لافيات" وسط العاصمة دخل إلى عمارة وفوجئ بمجموعة من الأشخاص الشبان الذين كانوا بصدد اقتسام أموال فيما بينهم. أما حياة العكروتي (موظفة بمستشفى) فأكدت أن هذه الظاهرة أصبحت غير محتملة فتجد المتسول في المقاهي والمطاعم والفضاءات التجارية والمطارات حتى أنك يمكن أن تستغرب عندما تدخل مكانا عاما ولا تجد فيه متسولين. هذا إلى جانب أنهم يتواردون عليك بالتناوب فما إن تصد أحدا حتى تجد الآخر يسلم لك وردة أو مشموما أو لعبة على أنه معاق. أسباب الظاهرة لعلم الاجتماع رأي في هذه الظاهرة حيث يقول السيد طارق بن الحاج محمد ان أسبابها اقتصادية واجتماعية وخاصة الفقر والتهميش الاجتماعي الذي أصبح يمس عددا كبيرا من المواطنين خاصة بعد ارتفاع نسبة الفقر إلى أكثر من 20 بالمائة، هذا إذا اضفنا إلى ذلك تراجع التنمية وتراجع فرص العمل بكامل أنحاء البلاد فيصبح التسول أهم مصدر لتأمين الدخل. وأضاف ان تفقير الطبقة الوسطى التي كانت تقوم بدور كبير في انتشال الطبقات الفقيرة من الفقر كان يكفي ان يتوظف أحد من العائلة لانتشال بقية أفراد عائلته من الفقر، اما اليوم فحتى الموظف أصبح على أبواب التسول وهو ما نلاحظه عند استعماله البطاقة المغناطيسية عندما يكون رصيده في "الروج". أسباب ثقافية واضاف السيد بن الحاج محمد انه في السنوات الأخيرة سادت نوعية معينة من الثقافة الاجتماعية تتبنى التواكل والربح السريع والربح بدون بذل أي مجهود وهذه قيم مناقضة لقيم العمل والمثابرة وكل ما تراجعت هذه القيم إلا وتنتج ظواهر مثل التسول والجريمة وغيرها ويصبح التسول مبنيا على ظاهرة التواكل. المعطى الآخر هو ما يسمى بالانفجار في الآمال والتطلعات.. غلبتنا شهواتنا ورغباتنا وهذا ترافق مع تراجع بعض القيم الاجتماعية والاخلاقية الأخرى مثل الانفة والكبرياء والكرامة وعزة النفس باجتماع هذين العاملين يمكن للفرد أن يستسهل عملية التسول حتى وان جلبت له العار مقابل تحقيق رغباته الآنية بأي ثمن وبأية طريقة بما في ذلك التسول لأنه "من هان يسهل الهوان عليه". وسائل التسول وفي جولة الصباح في بعض شوارع العاصمة وفضاءاتها لاحظنا أن وسائل التسول تغيرت فبعد أن كانت تعتمد إثارة الشفقة والاستجداء واللباس الرث أو إظهار الإعاقة أصبح التسول اليوم يقوم على سيناريوهات، فيعتمد على البلاغة وحسن الخطاب يقومون به شبان وفتيات وأطفال صغار ونساء عندهن رضع للإيحاء أنهم ابناء عائلات لكن الظروف حتمت عليهم ذلك. فتجد الذي يستجدي ويطلب منك ان تعينه ببعض المال لأنه أضاع محفظته أو أنه حديث الخروج من المستشفى أو من السجن وليس لديه مال أو أولئك الذي قدموا من داخل المدن ويطلبون منك مالا ليعودوا إلى مسقط رأسهم. دور الرقابة في تفاقم الظاهرة اما عن غياب الرقابة الأمنية فقد طرحنا السؤال على احد المسؤولين الأمنيين حول ظاهرة التسول وهل ان تفاقمها يرجع لغياب الامن فأفادنا بان هناك بعض الأشخاص الذين وجدوا في التسول مهربا للحصول على المال دون أي جهد خاصة وان الأغلبية اليوم ميالون إلى التواكل والحد الأدنى من المجهود فيلتجئ هذا الشخص إما إلى السرقة و"النطرة" لحقيبة نسائية أو سلسلة ذهبية أو ما شابه أو يلتجئ إلى التسول. والتسول مظهر سلبي في بلادنا ويمكن ان يعاقب عليه القانون وذلك للحفاظ على صورة البلاد امام السائح الاجنبي الذي يمكن ان ينقل فكرة سيئة. كما ان هذه الظاهرة تفاقمت خاصة بعد الثورة وذلك نتيجة الانفلات الأمني حيث تكتلت كل الجهود للحد من الظواهر الأخرى الإجرامية الخطيرة وإعادة الفارين من السجون التي تعتبر ذات أولوية للحفاظ على ممتلكات وحياة المواطن ومكاسبه.