بقلم: د. مصطفى البعزاوي إن اللحظة التاريخية الراهنة التي تمر بها الشعوب العربية هي لحظة فارقة ومفصلية في تاريخها الحديث. هذه اللحظة لا تتكرر دائما بل لا تأتي إلا نادرا كنقطة تحول حاسمة من وضع إلى وضع وانتقال من مرحلة إلى أخرى. ولعلنا ونحن ضمنها لا نشعر بخطورتها لأننا جزء منها لذلك يجب أن نتعامل معها بكثير من التعقل والرشد. الفترة الراهنة هي شبيهة بالفترة التي عايشها آباؤنا وأجدادنا عقب خروج الاستعمار العسكري من بلداننا. لكننا، ومع الأسف، نشكل شاهدا حيا على فشل تجربتهم بكل المقاييس في إقامة مجتمع متوازن ومتقدم رغم الإمكانات الهائلة التي كانت بين أيديهم. تمخضت تجربتهم في نهاية الأمر على إنتاج أنظمة قمعية وفئوية ومجتمعات متخلفة وضعيفة ترمي أبناءها في البحر من أجل مستقبل أفضل برغم ثورتها وهي من المتناقضات العجيبة الغريبة. فكيف يترك الثائر ثورته؟ ومن أجل ماذا ثار إذا لم يكن من أجل وطنه ومستقبله؟ في هذا دلالة على عمق الخراب النفسي والثقافي والاقتصادي الذي أحدثته هذه الأنظمة حتى فقد الأفراد الثقة المطلقة في المستقبل حتى بعد الثورة وهي علامة يجب أن تقض مضجع العائلات السياسية والفكرية التي تلهث وراء مكان على جثة السلطة. ما حققته الثورة في تونس ومصر إلى الآن هو الإطاحة برموز الأنظمة لا بالأنظمة. هذه الرموز كانت العنوان البارز لنوعية معينة من الحكم تقوم على زواج العنف بالمال فالعنف كان الأداة القانونية للحفاظ على هذه النوعية من النظام أو ما يسمي بمؤسسات الدولة أما المال فكان يجب أن يكون حكرا على العائلات والمتنفذين والمتملقين على حساب حاجات وحقوق شعب بأكمله, المال كان هو سلطة الوهم الأخرى التي تشترى بها الذمم والأعراض وتوزع الفضلات على التابعين الذين يكتشفون فجأة أنهم دخلوا بحق نفق الذل والعبودية وأصبحوا مجبرين على الولاء والطاعة في كل لحظة وإلا طارت مصالحهم أو رؤوسهم في الهواء. الكثير من الذين يشتكون الآن تسلط الطرابلسية أو بن علي كانوا إلى وقت قريب يمشون في السحاب ويستقوون على عباد الله بهذه القرابة الوسخة الذليلة لعل الفرق بين نظام بورقيبة ونظام بن علي أن الأول حاول بناء نظام قائم على نوع من التوازن بين هذين العنصرين لكن بدون زواج حيث لم يوجد السياسي الغني ولا الغني السياسي إلا نادرا غير أن الثاني أقام علاقة خنائية بأتم معنى الكلمة بين المال والعنف فأنتج دمارا لكل المنظومة الأخلاقية والقيمية للمجتمع طالت كل مجالاته وأفراده. ولعل تقارير ويكيليكس التي وصفته بنظام مافيا كانت إلى حد ما متسامحة في هذا النعت المجتمع الآن هو خرابة بأتم معنى الكلمة وعلى الذين يستعجلون وضع أيديهم على مقاليد هذه البلاد أن يقدروا حجم الدمار الشامل الذي لحق ببنية هذا المجتمع نحن الآن جزء من الفساد الذي نتحدث عنه لأننا في مكان ما كنا أحد أطرافه كأفراد أو كمجموعات، إلا ما رحم ربك نحن نتحدث على خراب المؤسسات أكثر من خراب الناس أو خراب الإنسان لأن المؤسسات قامت على خراب الذمم ودمار الضمائر حيث يسيرها الأكثر تزلفا وتملقا ويكون على رأسها من يكون أكثر استعدادا من البقية لخدمة لا تليق إلا بالكلاب وهي اللهث وراء رضى العائلة يبيع من أجل ذلك حتى شرفه. هل فهم أحد منكم معنى وأبعاد أن تطال قائمات العار المستفيدة من النظام العفن النخب والفنانين والمحامين والقضاة ودكاترة الجامعة ورموز الثروة والاستثمار والرؤساء المديرين العامين للشركات العامة والخاصة والأطباء والصيادلة والرياضيين وقادة الجيش والأجهزة الأمنية فمن بقي من نخبنا يا ترى لم يتلوث أو قل لم تحدثه نفسه باللحاق بالقافلة؟ يجب على هذا الجيل تأسيس قواعد جديدة لكل العلاقات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية حتى لا نعيد توليد أنماط العلاقات القهرية القائمة على علاقة البغاء بين المال والعنف المقنن, يجب تفكيك شبكة العلاقات القائمة على ثقافة الذل والإستكانة، خصوصا ثقافة «ذيل الكلب» التي أسستها الحاجة والخصاصة وعمقها اختلال العدالة الاجتماعية والجهوية حتى باعت الناس ذممها وتسابقت على الانهيار في أتون النفعية والانتهازية والوصولية. اختلال منظومة العلاقات الاجتماعية تعمقت بالسقوط المبرمج والمدوي لنظام التعليم والتكوين تهاوت معه كل القيم والمثل وتحولت الذمم والضمائر إلى سلعة رخيصة تباع وتشترى على أعين الخلق علينا أن لا ننسى ذلك أبدا, هذه المهمة هي من أولويات إعادة البناء لمجتمع جديد ومستقبل واعد لأبناء وبنات هذه البلاد. التقرب من مراكز السلطة كان، وسوف يبقى، من مظاهر الوجاهة والتباهي وهي نعمة ودرجة لا يصل إليها إلا الذين تمكنوا من اجتياز كل مستويات السقوط والإذعان وتمرسوا على تقنيات التلون والانتهازية لذلك الأجدر ربما أن تكون الوزارات السيادية مستقبلا من مشمولات مؤسسات الشعب لا من مشمولات الرئيس أو الوزير الأول وإن كانت يجب أن تكون في خدمة سياستهم وبرامجهم التي بفضلها تبوؤوا المنصب, المعنى هو أن يكون تعيين وزير الداخلية والخارجية والدفاع والعدل والمال من مشمولات مجلس النواب- يعني من مشمولات الشعب- لا من مشمولات مركز القرار في الدولة حتى وإن يخضعوا قانونيا ودستوريا لسلطته وتحت تصرفه حتى يستطيع هؤلاء القيام بمهامهم الجمهورية لا بمهام الولاء وإرضاء السيد الرئيس وعائلة الرئيس ونمنع الإنزلاقات التي تسرق بالوسوسة والوقت.