بقلم: يوسف النابلي قام الشعب التونسي، خاصة الشباب منه، بثورته المجيدة وجاء موعد التسجيل في انتخابات المجلس التأسيسي. الكل كان ينتظر إقبالا كبيرا في التسجيل، خاصة من طرف الشباب، حتى يكمل حلقة أساسية من الحلقات المتبقية لإنجاح الثورة وللتصدي لمطامع وانتهازية الثورة المضادة. لكن الذي حصل هو عكس ما كان منتظرا: نسبة التسجيل كانت ضعيفة وتصب في اتجاه ما يصبو إليه أعداء الثورة. لولا التمديد في أجل التسجيل (من 3 أوت إلى 14 أوت) لكانت النسبة كارثية ومحتشمة للغاية. يعني هذا أن من قام بالثورة هو الآن، من حيث لا يدري، يساهم في إخمادها وفي مناصرة الثورة المضادة. كثرت وتضاربت الآراء حول تفسير وتأويل هذا الإقبال المحتشم وغير المنتظر. معظم الآراء التي قدمت لها جانب كبير من الصحة ولو أني لا أذهب مع الطرح الذي يرى أنه لا أحد من الأحزاب المتنافسة يستحق ثقة وإعجاب أغلب مواطني تونس. حسب رأيي الخاص، التفسير المفصلي والأساسي لعزوف نسبة كبيرة من المواطنين عن التسجيل هو الآتي: - عدم وضوح الرؤية لديهم حول فكر وبرامج ونزاهة الأحزاب فلماذا يقوم المواطن بعملية التسجيل والحال أنه لم يتأكد بعد من الحزب الأجدر للتصويت له؟. كيف للمواطن أن يتعرف جيدا على كل الأحزاب بصفة تجعله يقيم بموضوعية قيمة الأحزاب المتنافسة والحال أن تعدادها تخطى المائة حزب من جهة وأن دور الأعلام في تقديم وتعريف الأحزاب كان محدودا ومهزوزا من جهة أخرى ؟ الموضوعية تتطلب قبل كل شيء المعرفة الجيدة لكل الأحزاب بدون استثناء. هذه المعرفة تتطلب وقتا أكثر من بضعة أشهر وجهدا وطاقة أكبر من أن تتحملها قدرة البشر حتى وإن كان الباحث عن هذه المعرفة متفرغا كليا لهذا العمل. إذن، أداء الحكومة (سيولة غريبة وربما مشبوهة في منح التراخيص) وأداء الأعلام يصبان في إطار عدم الرؤية الواضحة للمواطن. السؤال المطروح أمام تقصير الحكومة والإعلام هو الآتي: كيف لنا أن نقدم على التعرف وعلى تقييم الأحزاب بدون إحباط وبصفة جيدة في وضعية يستحيل فيها اتباع منهجية موضوعية حتى نرتقي إلى نسبة محترمة من المقبلين على صناديق الاقتراع؟ هذا السؤال كان مطروحا بشدة من طرف عدة شرائح من المجتمع وهذا يدل على وعي هذه الشرائح بأهمية أداء الواجب الانتخابي (التصويت هو واجب قبل أن يكون حقا في هذه المرحلة الحساسة من الثورة) وبصفة موضوعية تقلل من أخطار الوقوع في الخطإ التقييمي. حسب نظري البسيط الجواب عن هذا السؤال يتلخص في اتباع منهجية قابلة للتطبيق مع احتوائها أكثر ما يمكن من القواعد المثالية (الموضوعية والعقلانية). هذه المنهجية ترتكز على المراحل والاعتبارات التالية: 1- السعي إلى معرفة فكر وبرامج ونزاهة أكثر ما يمكن من الأحزاب المتواجدة حسب قدرة المواطن على تحمل أعباء البحث الدقيق والموضوعي، المهم أن الكم لا يكون على حساب الجودة: فلا للتسرع ولا للآراء المسبقة، معرفة عشرة أحزاب فقط من بين مائة بصفة جيدة أفضل بكثير من معرفة سطحية ومتسرعة لخمسين حزبا، في هذا الصدد لا بد من الإشارة إلى ضرورة تنوع مصادر المعلومات والالتجاء إلى أكثر من وسيلة إعلامية حتى نضمن صحة المعلومات المقدمة ودقتها. من اللازم كذلك التنبيه على أن الاطلاع على فكر وبرنامج الحزب لا يكفي وحده حتى نقيم بموضوعية قيمته، معرفة نزاهة أعضاء الحزب، حيث أن سعادة العضو تكمن في خدمة وإسعاد الآخرين، هي أيضا ضرورية للتقييم الجيد، لكن التأكد من نزاهة حزب ما ليس بالهين، هذا التأكد لا يمكن أن يتحقق من خلال خطاباته ووثائقه الرسمية فقط ولكن أيضا من خلال الممارسة، الدليل أننا لما كنا نسمع خطاب التجمع يخال لنا أننا في دولة متقدمة أساسها القانون والعدل وفي واحة من الديمقراطية. الممارسة طبعا تفضحه. لكن كيف لنا أن نعرف مدى نزاهة عضو والحال أنه لم يباشر بعد السلطة ؟ أعتقد أن التثبت والتركيز على بعض من الأشياء تمكننا من الاقتراب على الأقل من مدى نزاهة أعضاء حزب ما: -هل أن الخطاب واللغة هي واحدة أم مزدوجة حسب الظروف وحسب المتلقي؟ -هل يحترم الآخرين في الحوارات التي يشارك فيها في البرامج التلفزية ؟ -هل هنالك تناقض في كلامه؟ -دوافع الترشح هل هي شخصية أم لخدمة البلاد سواء ترشح هو أو غيره ؟ -هل يمنح خدمات ومالا وغذاء لبعض المواطنين مقابل أصواتهم ؟ -الوسائل المستعملة للفوز، خاصة التمويلية منها، في الانتخابات. 2- تقييم الأحزاب من خلال المبادئ المتبعة لرسم أهدافها وبرامجها. حسب رأيي، المبدأ المفصلي والأكثر أهمية هو الآتي: الأخذ من كل المنظومات المعروفة (حتى وإن بدت عديمة النجاعة)، سواء كانت سياسية أو اقتصادية، الجانب الإيجابي مع ترك السلبيات. التجربة تقول إنه ليس هنالك نظام، سواء كان سياسيا أو اقتصاديا، كله إيجابيات وخال من كل السلبيات أو العكس كله سلبيات وخال من الإيجابية. إذن المنطق يجرنا إلى المزج بين الأنظمة بصفة تمكننا من أن نأخذ من كل طرف الإيجابيات مع ترك السلبيات وبالتالي فالنظام السياسي الأمثل هو مزيج بين النظام الرئاسي والنظام البرلماني، والنظام الاقتصادي الأنجع هو النظام الليبرالي الاجتماعي أو الاجتماعي الليبرالي أو بما يسمى بالوسطي مع أخذ الخصوصيات التونسية بعين الاعتبار. كذلك يجب إعطاء كل القيمة والأهمية لحزب تمكن من صياغة نظام جديد بعيد عن المألوف قام برسمه تونسي مرتكزا على الابتكار والعقلانية. فكما قام الشعب التونسي بثورة ليس لها مثيل في العالم لا نستغرب أن تكون تونس أيضا سباقة في صياغة وتطبيق نظام سياسي فريد من نوعه يكون دليلا ومثالا يحتذى في الدول الأخرى. 3- الوعي بأن أخطر ما يوجد في النظام السياسي هو الاستبداد بالفكر الواحد أو الإيديولوجية الواحدة بصفة تجعله يرى (وبصدق) أن كل ما يبتعد عن فكره خاطئ وسلبي، هذا النظام يؤدي حتما (شاء أو لم يشأ) إلى ديكتاتورية الفكر وهو أخطر ما يوجد في الديكتاتورية. إذن وجب الحذر والابتعاد عن تيارات الفكر الواحد كالتيارات الدينية وتيارات القوميين العرب وكذلك تيارات أقصى اليسار أو الليبرالية المتوحشة. تجدر الملاحظة أن تقييم الأحزاب من خلال المبادئ ومن خلال الوعي بخطر الفكر الواحد الذي يبدو لصاحبه أنه الوحيد الذي يملك الحقيقة يقود حتما إلى غربلة كثير من الأحزاب عديمة النجاعة أو الخطيرة على المسار الديمقراطي وبالتالي لن يبقى من الأحزاب الجيدة التي تستحق الثقة إلا القليل منها مما يسهل علينا استنتاج الأحزاب الجيدة وعملية الاختيار. 4- عدم الخلط بين أدوار وخصال رئاسة الدولة (أو رئاسة الحكومة) وصياغة الدستور وعدم إغفال أن الدور الأساسي للمجلس التأسيسي هو صياغة دستور البلاد قبل أن يختار رئيس البلاد وأعضاء الحكومة الانتقالية. لذا عند اختيار الحزب الأمثل للبلاد للتصويت عليه لا يجب التركيز فقط على من هو مؤسس الحزب أو قائده الأجدر بأن يكون رئيس البلاد بل كذلك وخاصة على من هو قادر على صياغة الدستور الأمثل للبلاد التونسية.