بقلم: حامد المعروفي انطلق رنين جرس تقليدي فخيّم على القاعة صمت كبير ونهض القوم واقفين واشرأبّت اعناقهم نحو احد الأبواب فدلف منه رجل يرتدي حلّة حمراء وتبعه ستة اثوابهم سوداء واحداهم امرأة فتوسّطهم وتوزّعوا على يمينه وشماله وكان واضحا انه اكبرهم سنّا ومقاما وما أن استووا على مقاعدهم حتّى القى كبيرهم نظرة امامه فبدا متجهّما برغم الإبتسامة التي حاول رسمها على شفتيه ثمّ مدّ يده الى مجموعة من الملفات السميكة والموضوعة على يمينه فتناول اعلاها ونطق وهو يتصفّح غلافه بهويّة شخص فردّدها الموظّف الواقف على مقربة منه بتراخ ولا مبالاة وسمعت(برفع السين) همهمة بين الحاضرين فتدخّل "الكبير" بتوتّر ملحوظ داعيا ايّاهم للهدوء ثمّ خاطب شابّا كان جالسا القرفصاء قبالته بين مجموعة من المتهمين المجلوبين من السجن قائلا له "الست انت محمد ر..الم تسمع ندائي عليك؟" فأجاب متلعثما"نعم انا هو يا سيّدي"... ونهض مرتبكا ليمثل امامه خلف مشبك خشبي فسارع احد رجال الأمن بالإنتصاب حذوه وإذا بالأصفاد التي كان يمسكها تترجرج محدثة صريرا مزعجا... وبدأت المحاكمة فبدا من "الكبير" احتقان كبير دلّ على انه منهك ومجهد،وكم رثيت لحاله حين همس في اذني احد الحاضرين بأنه لا يقيم بمدينتنا ولايفد عليها الاّ صبيحة ذلك اليوم من كلّ اسبوع وقد يجازف في بعض الأحيان بالقدوم اليها قبل يوم كامل فينهمك في "التهام" الملفات ويوم غد وبعد ان يكون قد بتّ فيها مع بقيّة مساعديه بالفصل او بغيره يعود ادراجه من حيث اتى ليتحمّل من جديد عناء الرجوع الى ذويه بوسائل النقل العمومي،وحين ادركت ما يعانيه المسكين من مشقّة وما يتحمّله من تعب وددت لو امكنني رفع العهدة عليه ودعوته الى ممارسة وظائفه بواسطة"السكايب" وهي وسيلة عصرية اثبتت نجاعتها وصارت تجرى بواسطتها حتّى العمليات الجراحية فما ضرّ لو طوّعت هي او ما يماثلها لخدمة الشأن العام...وتواصلت المداولات وكنت اختلس النظر للأربعة المحيطين به فأبلغت بأن ثلاثة منهم يعانون من نفس الأوضاع وان القوم لا يجتمعون الاّ يوم الجلسة ثمّ يتفرّقون بعدها متعجّلين نحو سيّارات الأجرة والحافلات او القطار فلا يلتقون الاّ يوم الميعاد في الأسبوع القادم ،وعدت اتابع الحوار الدائر بين "الشاب" و"الكبير" فسمعت هذا الأخير يقول له"انت من سيدي بوزيد...انا اعرفكم جيّدا اهل تلك المنطقة واعلم انكم لا تتورّعون عن فعل ايّ شئ..""...كان كلاما قاسيا جدّا وجارحا ولم اتأكّد من صحّة معانيه التي لم يقصدها ذلك "الكبير" الاّ بعد عدّة اشهر وبالضبط خلال شهر ديسمبر 2010 حين بلغني ان احد ابناء"سيدي بوزيد" قد اقدم على حرق نفسه...كان "البوزيدي" الماثل امامه يلتهب حنقا وقهرا ولاح عليه الألم والتأذي ممّا سمعه فتحمّل وجيعته برجولة ظاهرة...وشخصت بحزن وغصّة نحو المنصّة الحمراء والسوداء فأدركت ان اربع او خمس سويعات من العمل اسبوعيا تكلّف شعب تونس رواتب لا تقلّ عن 7000 دينار يتقاضاها شهريا ستة موظّفين يتساوون في شهاداتهم العلميّة مع اساتذة التعليم الثانوي الذين يقضّون بفصل التدريس ما لا يقلّ عن عشرين ساعة اسبوعيا ويعودون الى ديارهم مثقلين بالملفات والفروض...ثمّ تدرّج بي الأمر الى تصفّحات اخرى فتذكرت ان البعض من اهل تلك المنصّات الموقّرة لا يعترفون بإشارات المرور ويضعون انفسهم خارج مناطاتها وان البعض الآخر منهم لا يخضع عربته للفحص الفني وان قلّة منهم يذهب بها التيه حتّى الى عدم تأمينها...لكنني وجدت عزائي في ان عددا هامّا منهم يتميّز بانضباط كبير ووطنية قياسية وهو لا يتظلّل بما اتيح له من حصانات للتفصّي من الأعباء الملقاة على عاتق عامّة المواطنين بل انه يناضل من اجل تحقيق المساواة بخصوصها بين كلّ الناس مهما كانت مواقعهم او علا شأنهم...وللحديث بقيّة.