بقلم: أ.د.علي الفرشيشي سوف تبدأ البلاد التونسية الحديثة بتأسيس نظام ديمقراطيتها ومصطلح الديمقراطية نشأ في أثينا القديمة في القرن الخامس قبل الميلاد وهذا الشكل من الحكم يسمى بالديمقراطية المباشر وبمرور الزمن تغير معنى الديمقراطية وارتقى تعريفها الحديث كثيراً منذ القرن 18 مع ظهور الأنظمة الديمقراطية في العديد من دول العالم. وأرسى منظرو علم السياسة عديد التصورات حول الديمقراطية ومن أهمها: ديمقراطية الحد من سلطة الأحزاب وهي وفق هذا التصور نظام حكم يمنح المواطنون فيه القادة السياسيين الحق في ممارسة الحكم عبر انتخابات دورية. الديمقراطية الاستشارية وتقوم على المفهوم القائل بأن الديمقراطية هي الحكم عن طريق المناقشات وأن الميدان السياسي يجب أن يكون ساحةً لنقاشات القادة والمواطنين. الديمقراطية التشاركية، وفيها يجب أن يشارك المواطنون مشاركة مباشرة لا من خلال نوابهم في وضع القوانين والسياسات. فالنشاط السياسي يثقف المواطنين ويجعلهم اجتماعيين، كما إن بإمكان الاشتراك الشعبي وضع حد للنخب المتنفذة والمتطفلة. الديمقراطية الإشتراكية وهي مشتقة من الأفكار الاشتراكية في شكل تقدمي وديمقراطي إلا أن معظم الأحزاب التي تسمي نفسها ديمقراطية اشتراكية لا تنادي بإلغاء الرأسمالية، بل بتقنينها بشكل كبير ويعارض الفوضويون الدول الديمقراطية ويعتبرونها منبع فساد وهم يفضلون نظاماً أقل هرمية من خلال الجمعيات الحرة. ورغم انتشارها في عديد دول العالم، فللديمقراطية عديد النقائص والمساوئ وأهمها البيروقراطية والرؤية قصيرة المدى وإرساء حكومة الأثرياء (قد يشجع النظام المرشحين على عقد الصفقات مع الأغنياء من مؤيديهم على أن يقدموا لهم قوانين يفضلونها في حالة الفوز) وخطر طغيان الأغلبية. وأما أهم النقاط التي تُحسب للديمقراطية فهي بالأساس الاستقرار السياسي وانخفاض مستوى الفساد والفقر. ولكن وانطلاقا من هذه الجملة من القيم والمبادئ والتصورات، فهل توجد عوائق لإرساء ديمقراطية في تونس؟ المشكلة الكبرى تكمن في غياب التربية الديمقراطية في أوساط المجتمع والنخب الحاكمة في تونس. نحن نحتاج اليوم إلى تحولات اجتماعية عميقة وطويلة المدى تكسر الانغلاق على الفكرة الواحدة، والقناعات بوجود موقف موحد، وتفتح الأفق على الإيمان بأن الحقيقة موزعة على الأطراف، وأن ليس هناك أسود وأبيض عندما يتعلق الأمر بالعيش المشترك ضمن إطار وطني. صحيح أن الشعبوية سوف تسيطر على الأجواء العامة لفترات عقب التحول الديمقراطي في تونس، وذلك على حساب التيارات والتوجهات العقلانية والحداثية، لكن لا يبدو أن ثمة مناصا من خوض التجربة ودفع تكاليفها. ومع تنامي هاجس التغيير الديمقراطي في تونس، اتسع تداول مصطلح المواطنة لما يحمله من معاني المشاركة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وجل المفكرين يتفقون بأنه لا يستقيم البناء الديمقراطي دون وجود روح المواطنة. ويقصد بالمواطنة العضوية الكاملة والمتساوية في المجتمع بما يترتب عنها من حقوق وواجبات، وهو ما يعني أن كافة أبناء الشعب الذين يعيشون فوق تراب الوطن سواسية بدون أدنى تمييز قائم على أي معايير تقييمية مثل الدين أو الجنس أو اللون أو المستوى الاقتصادي أو الانتماء السياسي والموقف الفكري. وتترتب عن التمتع بالمواطنة سلسلة من الحقوق والواجبات ترتكز على قيم محورية هي المساواة في العديد من الحقوق (مثل حق التعليم، والعمل، والجنسية) وحرية الاعتقاد وحق المشاركة في كل أشكال الاحتجاج السلمي المنظم مثل التظاهر والإضراب، والتصويت في الانتخابات العامة بكافة أشكالها، وتأسيس أو الاشتراك في تأسيس الأحزاب السياسية أو الجمعيات أو التنظيمات المختلفة، والترشح في الانتخابات العامة بكافة أشكالها. وتتضمن العديد من الواجبات مثل واجب دفع الضرائب، وتأدية الخدمة العسكرية للوطن، واحترام القانون، واحترم حرية وخصوصية الآخرين. وباختصار، فالمواطنة مفهوم شامل ومعقد له أبعاد عديدة ومتنوعة منها ما هو مادي قانوني ومنها ما هو ثقافي سلوكي، ومنها أيضا ما هو وسيلة أو غاية يمكن بلوغه تدريجيا، لذلك فإن نوعية المواطنة في دولة ما تتأثر بالنضج السياسي والرقي الحضاري. ويتضح من هذه النظرة للمواطنة، أن ما يجب أن يجمع المواطنين التونسيين كافة ليس العقيدة الواحدة ولا الأصل الواحد ولا الدين أو المذهب الواحد، وإنما الإرادة الواحدة في العيش بكرامة وحرية، أي الطموح لمعانقة القيم الإنسانية، والذي لا يمكن لفرد أن يحترم فيه ذاته من دون أن يحترم غيره، ولا أن يضفي الشرعية على حقوقه، وأهمها الحرية، من دون أن يعترف بشرعية حقوق الآخر، وبالتالي مساواته معه، وتقاسمه مع أعضاء مجتمعه جميعا حياة الكرامة والمسؤولية. وتونس التي تتعدد أصول مواطنيها، وانتماءاتهم الثقافية والسياسية، لا يمكن ضمان وحدتها واستقرارها إلا على أساس مبدأ المواطنة الذي يرتكز على منظومة قانونية وسياسية واجتماعية وأخلاقية متكاملة، والمساواة كمقوم رئيسي للمواطنة. ولحماية مبدأ المساواة بين جميع المواطنين داخل المجتمع الذي تتناقض فيه المصالح والأغراض، فإنه لابد من وجود ضمانات قانونية وقضاء مستقل وعادل يتم اللجوء إليه من طرف كل من تعرضت حقوقه للمس أو الانتهاك من لدن الآخرين. ولن تتبلور في الواقع التونسي صفة المواطن كفرد له حقوق وعليه واجبات، بمجرد توفر دستور أو ترسانة من القوانين والمؤسسات، التي تتيح للمواطن التمتع بحقوقه والدفاع عنها، وإنما كذلك بتشبع المواطن التونسي بقيم وثقافة المواطنة. ويعني ذلك الولاء لهذا الوطن وشعور كل مواطن بأنه معني بخدمة الوطن، والعمل على تنميته وحماية مقوماته الدينية واللغوية والثقافية والحضارية، والالتزام باحترام حقوق وحريات الآخرين، والمشاركة في النفقات الجماعية، والانخراط في الدفاع عن القضايا الوطنية، والتضامن مع باقي المواطنين والهيئات والمؤسسات الوطنية في مواجهة الطوارئ والأخطار التي قد تهدد الوطن في أي وقت، والاستعداد للتضحية من أجل حماية الاستقلال وإذا كان التعلق العاطفي بالوطن يوجد لدى الإنسان بالفطرة، فإن الوعي بمقومات المواطنة، يكتسب بالتعليم والتأهيل، عن طريق الأسرة، والمدرسة، ووسائل الإعلام، والثقافة، والمجتمع. وإذا كانت كل هذه القنوات تتكامل أدوارها في إشباع الأجيال بقيم المواطنة، فإن النتائج لابد أن تكون ملموسة في تنمية المجتمع التونسي وتحضره. أستاذ وباحث، معهد المناطق القاحلة، مدنين