لنترك مسألة «الهيبة» ونصلح قضاءنا جذريا.. ارتفعت عديد الأصوات مؤخرا، تنادي بضرورة إصلاح المنظومة القضائية في تونس الثورة، باعتبار أن هذا السلك الحساس والرئيسي في أي مجتمع، دجّنه النظام البائد، ووظّفه لمصالحه الضيقة الذاتية، فطفا الفساد ينخره في عديد المفاصل والجوانب... ونحن على أبواب المؤتمر الخارق للعادة لجمعية القضاة التونسيين الذي سيعقد يومي 29 و30 أكتوبر الجاري، تبرز بإصرار عديد الأسئلة المتعلقة بهذا السلك.. منها: هل يمكن للسياسة أن تصلح القضاء؟ وكيف يتراءى مستقبل المنظومة القضائية بعد انتخابات المجلس الوطني التأسيسي؟.. وما هي الأولويات المطروحة على أعضاء الهيئة الإدارية لجمعية القضاة المزمع انتخابهم يوم الأحد القادم؟ هذه الأسئلة وغيرها، طرحتها "الصّباح" على القاضي معز بن فرج رئيس دائرة بالمحكمة الابتدائية بتونس العاصمة، وأحد المترشحين لعضوية المكتب التنفيذي لجمعية القضاة التونسيين... إجابة عن سؤالنا الأول، والذي مؤداه: "العديد من التيارات، اتهمت القضاء بالفساد.. فما رأيكم في هذا الأمر؟.. يقول القاضي بن فرج: ان تأمين حسن سير السلطة القضائية يتطلب العمل بسرعة فائقة على تنقية الجسم القضائي من عناصر يسيء حتى وجودها إلى العدالة وإلى وقار القاضي واحترامه وعدالة القضاء، إذ لا يجوز أن يبقى بعضهم، أن ثبت فسادهم، يفصل في حقوق المواطنين وكرامتهم ويصدر الأحكام باسم الشعب التونسي... لكن القول بفساد القضاء والقضاة دون وجود دلائل قاطعة يعتبر جريمة يعاقب عليها القانون وخرقا صارخا للمبادئ الدينية والأخلاقية. في جميع الحالات، أن مرجعيتنا هي الدين الإسلامي لذلك فإنني سأذكّر بموقف القرآن من خطيئة آدم حين نادى الله آدم وزوجته وقال لهما: "ألم أنهكما عن تلكم الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين، قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين" فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه، إنه هو التواب الرحيم". القرآن ينص على أن خطيئة آدم محتها توبته، فتحرر منها هو وذرّيته، ويبقى بعد ذلك عمله في الأرض التي أمر بالهبوط إليها لعمارتها هو وذريته وليحاسبوا على أعمالهم فيها، "فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره" وإذا أضفنا إلى ذلك ما تكرر في القرآن من أنه "لا تزر وازرة وزر أخرى" أدركنا مدى عمق الالتقاء بين مضمون هذه الآيات القرآنية وبين مضمون الإصلاح. أجزم أن قضاتنا "الأبرار" ليسوا كلهم فاسدين في زمن الخوف الأزرق، حيث يتصدر الصعاليك المحافل... تجارة الوشايات... تجارة التقارير... لماذا لم تتعال الأصوات آنذاك، إلا من بعض الأصوات المنفردة لانقاذ القضاء هل أنتم ضد انتقاد القضاء، ولو كان الهدف منه الإصلاح؟ بل بالعكس، أنا لست ضد الاقتراحات الاصلاحية للقضاء، إذ من الأفضل الآن ترك جانبا مسائل الهيبة لنرجع إلى الاصلاح الجدي للسلطة القضائية، لكن وجب صون القضاء من الانتقادات والادعاءات الملقاة جزافا أو من التحقير... نحن ضد اكراه الناس على الإيمان بتنزّه القضاء عن الخطإ واكراههم بالتعامي عن الأدلة الظاهرة الجلية كالشمس، على قابلية القضاة كأشخاص للسقوط. الآن، نحن جميعا في مركب واحد، وأمام حتمية واحدة لم تعد تقبل النقاش ولا التأجيل، وهي الخروج من هذه الدوامة عن طريق اصلاح جذري وشامل للنظام القضائي بأكمله، لأننا إذا أكملنا السير على المنوال نفسه... نكمل المأساة ونكمل دفن رؤوسنا في الرمال.
"القضاة بحاجة إلى عملية انقاذية"
"رفع الحصانة عن القضاة وضرورة الاصلاح فيه"...الخ. عناوين عدة، الى جانب تصريحات متواصلة لسياسيين في هذا الاتجاه ترد يوميا في الاعلام وتعكس ما يسمى أزمة القضاء، فأين القضاء إذن؟ ولماذا هذا الصمت الرهيب من القضاة أنفسهم؟ فوفق الاعلان العالمي لحقوق الانسان، للقاضي حرية التعبير وانشاء الروابط والاجتماع ومع ذلك عليه عدم الانتقاد والتأييد لأي جهة سياسية كانت، أو التعليق عن القضايا السياسية وأن يدخل في خانة التحزب. إن صمت معظم القضاة في الفترة السابقة، رغم الانتقادات الملقاة جزافا والتحقير في بعض الأحيان، يحكمه واجب التحفظ الذي يحول دون انجرار القضاة في مواقف قد تؤثر في حيادهم، أو في طمأنينة المواطن في حياديتهم نحن لسنا في أبراج عاجية، بعيدا عن الناس، بل بالعكس نحن حاضرون في آبار المآسي نفسها، ونشعر بما يشعر به المتقاضون أمامنا. إصلاح القضاء أو تكريس سلطة قضائية مستقلة شعار رفعه أبناء الثورة فما تعليقكم؟ الثورة لا تكتمل إلا بتكريس استقلال القضاء، هذا هو شعار المؤتمر الاستثنائي لجمعية القضاة التونسيين المزمع انجازه يومي 29 و30 أكتوبر. في بادئ البدء، أن من المضامين الثورية الحقيقية القائمة اليوم، والتي تعجز أقلام وألسنة كثيرين عن التعبير عنها، كون الاصلاح الذي تريد بعض الأطراف إقامته في تونس قد بدأ بالافساد وذلك بارباك وطمس الطريق الى الاصلاح الحقيقي، ومن ثمة تعتيم الرؤية التي تنشد الاصلاح. بناء دولة الحق والقانون لا يتم دون اصلاح قضائي بما يضمن المساءلة والمحاسبة ووقف الفساد وضمان حقوق المواطنين تجاه الدولة والمسؤول. حقا يجب التصدي للمروجين للشؤم وهم ثلاثة أنواع: البعض يدافع عن الرجعية، العودة والى الماضي الذي يوصف بأنه سعيد. آخرون متخصصون في تمزيق الحاضر، دون تقديم أي بديل له. ومازال هناك آخرون يشيعون الفشل، ويهملون النجاح، رسالتهم هي: إذا جربنا "كذا أو كذا" فسينجم عن ذلك كارثة، لذلك لا تجرب شيئا، هذه المجموعة من المتذمرين أو الشاكين والأنانيين ليس لديهم ما يقولونه للقوى الديمقراطية التي تبحث عما هو قابل للنجاح. ما يحز في النفس، أنه بعد ثورة 14 جانفي ورغم تمسك بعض القضاة في تحقيق أهداف الثورة والمسار الديمقراطي، بما يعرض أمامهم من قضايا وتفانيهم في عملهم الشاق، رافعين شعار الاستقلالية، إلا أنهم اصطدموا بواقع مرير بتقديمهم ككبش محرقة أو فدية تصطدم بها الانتقادات وتضيع في دهاليز المسخ من قبل فئات معينة أرادت على الأرجح ترويج فكرة أن، اصلاح القضاء يكون مدخلا أساسيا لاجتثاث الفساد واصلاح أمور الدولة على الرغم من الحدود والأطر الضيقة التي ينحصر دوره فيها. ما ألاحظه الآن، بقاء بعض القضاة دون سواهم يطالبون باستقلال السلطة القضائية، وكأن المواطنين قد بردت هممهم في شأن المطالبة باستقلال القضاء فبدا وكأن المطالبات السابقة كانت بمثابة وسيلة تكتيكية في مواجهة سلطات يبغضها الرأي العام، وكأنها باتت غير ضرورية ما دام الحكم القادم قد يوحي بالثقة بانتخاب المجلس التأسيسي، ويضمن لنفسه الابتعاد عن التدخل في أعمال القضاء. اعتبر البعض أن من ضمانات استقلال القضاء، عدم انشاء جمعيات ونقابات للقضاة؟ إن الاشكالية المتأتية من السماح من انشاء جمعيات أو نقابات من القضاة بهدف تمكين القضاة من تأليف قوة ضغط قادرة على المحافظة على استقلالية القضاة والتعبير على مطالبهم تجد جدالا اليوم في العديد من الاروقة، إذ يخشى أن تحقق هذه القوى سيطرة معينة على سير العمل القضائي وعلى المجتمع ككل، وهذه المخاوف بلغت حجما مهما مع صدور بعض المواقف من قبل هذه الهيئات، وربما يزاد الى هذه المخاوف، مخاوف تحول هذه التجمعات الى تجمعات تمارس ضغوطا على القضاة في ممارسة أعمالهم. وغني عن البيان، أن لجمعية القضاة دورا بارزا حاضرا وان شاء الله مستقبلا في بناء سلطة قضائية مستقلة وذلك من خلال تصديها المستمر لكل ما يعيق هذا البناء، ومطالبتها الدائمة بتكريس دولة الحق والقانون. في جميع الحالات، إن نضال قضاة تونس من أجل استقلالهم بعد ثورة 14 جانفي وقبل ذلك من خلال جمعيتهم قبل سنة 2005، قبل حصول الانقلاب عليها، لم يتخذ يوما طابعا سياسيا، بل تعداه الى النضال من أجل وطن يريد لأبنائه الاتحاد والارتفاع فوق كل تشرذم وشتات، وهو ما يفسر اهتمام القضاة بالشأن العام. أعتقد اليوم، أن وحدة القضاة في مواقفهم أمر ضروري فهذه الوحدة هي صمام الأمان، والدرع الواقية من كل تفكك حتى في أشد المحن، لقد فشلنا في وقت ما، لن نتقاذف كرة المسؤولية عن هذا الفشل لن نضعها في مرمى هذه الفئة أو تلك... تعالوا نبحث في أسباب الفشل بكل موضوعية وعقلانية، وفي الوسائل الآيلة إلى النهوض والبناء. "فلنتحد ونتضامن ونعمل لبناء سلطة قضائية مستقلة تضمن كرامتنا وكرامة هذا الشعب الكريم". الشعب اختار التغيير، فهل نختار نحن، بناء سلطة قضائية مستقلة، انه التحدي؟ كيف يتراءى لك مستقبل جمعية القضاة، في المستقبل، خاصة وان عملها سيتزامن مع عمل المجلس التأسيسي؟ يعتمد شكل المستقبل على القرارات التي سيتخذها منخرطو الجمعية في المرحلة القادمة، التي اعتبرها فترة حساسة جدا، الشيء الوحيد الأكيد أنه سيكون مستقبلا غير معروف الشكل، خاصة وأن القضاة غير ممثلين في المجلس التأسيسي على كل، علينا أن نتشجع لأننا نعيش هذه اللحظة من التاريخ. نحن الآن وغدا والى حدود صدور الدستور الجديد فوق الأمواج، ويجب أن تعتمد طريقتنا في ركوب تلك الموجة على خواصنا وآمالنا، الأمل لا يعتمد على طريقة متوقعة، الأمل هو الالتزام بأنه مهما كانت النتيجة، فإني ابذل حياتي لتحقيق هدف دائم أكبر، احد تعابير الأمل نجده لدى الناس الذين عاشوا في المعتقلات وفي ظلام الابادة، هؤلاء أعطوا صوتا لحرية الانسان النهائية، حرية تقرير الرد على أية ظروف خارجية. نحن القضاة في هذه المرحلة أشبه براكب الدراجة، فاذا كنت تمتطي دراجة وشعرت أنك تميل في اتجاه اليمين وبالغت في تصحيح ميلك في الاتجاه المضاد، فسوف تسقط حتما، ولن تواصل السير الى الامام الا اذا حافظت على توازنك. نحن جميعا، ما نحتاج إليه في هذا البلد هو الشعور، انه حين تظهر مشكلة في قضائنا، ان نشعر باننا ملزمون بان نتقدم ونصبح طرفا في حل المشاكل التي تضعف قضاءنا، بدل الجلوس جانبا في حالة قلق دائم تمتلكنا وتسيطر علينا. حقا ان الاستمرار في العزلة لدى البعض وبقاءهم غرباء، سيؤدي حتما الى عدم تحقيق استقلال القضاء، صدق من قال: "إذا كان الشخص موجودا داخل نفسه ومن أجلها فقط، وان كان أهله باقين عليه وحده، عندها يمكن القول أنه فقد وطنه". يعتبر بعض القضاة، بأنك من دعاة التيار "الوسط" الذي يوصف "بالمعتدل"؟ ما رايك؟ هذا هو المفهوم السطحي "للوسط" ذلك أن مفهومه أو مضمونه الأوسع يعني أنه "القلب"، ففي تواجد آراء واتجاهات مختلفة، وجب تواجد "الوسط" الذي يتقدم نحو المثل التي يطمح اليها جميع القضاة، بشكل عام، ويعمل على تأكيدها. من بين المثل العليا "للوسط" "المحاولة" أؤمن شخصيا "إن لم تنجح في المرة الأولى حاول مرة أخرى" العديد من القضاة يؤمنون بهذا التوجه، فهم لا يعملون إلا إذا آمنوا أن في وسعهم تحقيق تقدم ضد العوائق والشرور التي تمنع التحرك إلى الأمام. نحن نتعارض مع دعاة الثقافة المتميزة، التي يدّعون أنهم يمتلكونها دون سواهم. كما نختلف مع دعاة "العزلة"، وهم مجموعة أصرّت على عزل نفسها، تدين الآخرين دون أن تسعى الى أن تغرس شيئا، تستمر بالطبع في تقديم فنون الماضي القديمة !! نخبة أخرى امتنعت عن المشاركة في التقدم، أعتقد أن الكسل الذي أصابها وصل الى حد قيامها بأي شيء سوى التحدث مع نفسها. للأسف فالجديد يتساوى مع القديم في المواقف التي تتعارض مع المصلحة العليا، اني اعتبرها دعوة للانغماس في الضياع ونكرانا للمنزلة المستمدة من الأمل، وتعميق التفرقة والتشتت وعدم الوحدة، كلنا قضاة فلنكن يدا واحدة. في الختام، ما هو النداء الذي توجهه الى زملائك القضاة؟ "زملائي يا قضاة تونس، يا ضحايا زمن تضيع فيه كل الحقائق... يا من تحكمون بالموت، وأنتم بسلطان الموت والفقر والجوع محكومون، سلطة مستقلة أرادها الشعب فهل أنتم بالفعل مستقلون؟ لقد خافوا من نبل رسالتكم فقسموكم حتى يضعوكم وينافروا بينكم، يا قضاة تونس كنا صغارا وكانت أحلامنا كبيرة، فهل كبرنا اليوم وصغرت الأحلام؟ زملائي الأجلاء، يخطئ من يعتقد بأننا علينا أن ننتظر دهرا لاصلاح ما أفسده الدهر انني على اعتقاد راسخ يلامس الإيمان، لا ننتظر من السياسة أن، تصلح القضاء، بل بالعكس تماما، ننتظر من القضاء، متسلحا بالقانون، ان يصلح السياسة، أليس هو قدرنا !