بقلم: توفيق الشابي لا شك أن الانتخابات كانت حدثا استثنائيا في تونس والمنطقة العربية لأنه ولأول مرة ومنذ عشرات السنين تجري انتخابات بهذا الشكل الحر والشفاف بشهادة الكثيرين من الداخل والخارج. ولأنها كذلك فانها جديرة بالقراءة والتحليل بالنظر الى تداعياتها السياسية والاجتماعية والثقافية المنتظرة في المستقبل داخليا وخارجيا وما أفرزته من حقائق وآراء عبر عنها المجتمع من خلال الممارسة يوم الاقتراع والنتائج التي جاء بها الصندوق. لعل من بينها: - استعداد المجتمع التونسي ونضجه ورغبته للانخراط في مسار ديمقراطي حقيقي بكل مسؤولية. ولاشك أن هذا الاستعداد موجود منذ زمن بعيد وما السنوات التي مرت الا ضياعا فظيعا للوقت حصدته أجيال كثيرة من أبناء هذا الشعب. هذا الاستعداد ميَّزتْهُ تلك الهبة الشعبية الإرادية دون تدخل أو اجبار أو مساومة وتلك الصفوف الطويلة للنساء والرجال شيبا وشبابا وطول اليوم وهم مستعدون للانتظار لساعات طويلة وتحت أشعة الشمس بتحضر كامل من أجل ممارسة الحق في الاختيار, اختيار الأفراد والمسارأيضا. والجميل أن التونسيين (على الأقل من خلال المحيطين بي وما شاهدته على وجوه المستجوبين من طرف الصحفيين على شاشات التلفزة) ذهبوا الى الانتخابات بفرح أيضا من أجل تخليد هذه اللحظة في حياتهم وكلهم أمل في المستقبل. فقط ما يحزنني حقا هو ما يقابل هذا من ردود فعل البعض من النخبة التونسية ،خاصة بعد صدور النتائج، التي تتحدث عن محدودية الوعي والنضج لدى التونسيين وكأني بهم يستبطنون رغبة ما في العودة الى ما قبل الثورة وتناقضا فاضحا لأنهم قبل ذلك كانوا ممن أثنوا على هذا الشعب الذي اجترح في هذه المرحلة من الزمن طريقا جديدا للتغيير السلمي من أجل الحرية والكرامة. - تأكيد التوجه الشعبي العام نحو تكريس القطيعة مع النظام السابق: وجوها وسياسات وطرق ادارة للدولة واحداث تغيير حقيقي في البنى والمضامين. ان القوى التي وقع انتخابها هي قوى وقفت ضد الدكتاتورية بحزم وجرأة ولم تكن في يوم ما موالية أو مهادنة أواصلاحية. لذلك راهن عليها المجتمع لتكون بديلا فلا مجال لحلول ترقيعية أو شكلية تعيد الماضي بشكل أو بآخر. هذه هي رسالة الغالبية وعلى الأحزاب الفائزة أن تكون في مستوى تطلعات الشعب لتحافظ على الثورة من مخاطر الانتكاس والثورة المضادة. إن هذا التوجه يمثل أرضية مهمة يقدمها المجتمع للانخراط في ثقافة جديدة تقطع مع ثقافة العهد البائد التي كرست الانتهازية والشللية وغياب دولة القانون والمؤسسات. عن صورة السياسة والسياسيين في نظر الكثير من الناس في تونس وغيرها من البلدان, السياسة مرادف للأنانية والخديعة والجري وراء السلطة والسياسيون ثلة من الانتهازيين وأصحاب المصالح الخاصة لا تحركهم في الحقيقة إلا رغباتهم وطموحاتهم الشخصية لا غير وليس لهم غير الوعود التي لا تتحقق. هذا أيضا ما أشار إليه منذ عشرات السنين ثلة من المفكرين والفلاسفة. واقعنا التونسي أيضا شهد على ذلك وبقوة خاصة في العهد البائد. الآن وقد بدأنا نحبو في اتجاه مسار ديمقراطي مازالت هذه الفكرة سائدة بالنظر الى ما عشناه. حتى الذين شاركوا في الانتخابات، بحوارنا معهم، ندرك أن الشكوك حول هذا الأمر مازالت قائمة. فقط ما يدفعهم الى المشاركة بعض أمل في تغيير حقيقي يكون فيه السياسي خادما أمينا للشعب. الآن وقد انتصرت حركة النهضة وهي المرشحة لادارة الدولة بمعية أبناء تونس بمختلف أطيافهم تبدو في حالة اختبار حقيقي في مجالات متعددة لعل أهمها هو قدرتها على ارساء قيم جديدة في العمل السياسي وإدارة الدولة قوامها الصدق والمبدئية وخدمة الصالح العام. فهل تقدم لنا حركة النهضة بخلفيتها الاسلامية ونضالية أبنائها مثالا يحتذى في ذلك عبراستعادة قيم مفتقدة الآن ولكنها متأصلة في حضارتنا. ذلك ما نرجوه. عن علاقة الدولة بالمجتمع «الدولة في خدمة المجتمع وهي مجردُ حَكَمٍ, التدافع الفكري والسياسي مجاله المجتمع وليس الدولة» هذه خلاصة فكرة لافتة أشار اليها الأستاذ راشد الغنوشي في عدد من الحوارات وهي في صلب المطالب الديمقراطية عموما وتتقاطع حتى مع رؤى مفكري النهضة الغربية الأوائل. تَبَنِي هذه الفكرة من قبل حركة النهضة يعني: - توافقها مع القوى السياسية على مبدأ أساسي يؤكد استقلالية الدولة عن الأحزاب وأن الدولة في خدمة الجميع دون استثناء. - نضجا سياسيا وتطورا لافتا للحركة يعكس قابلية للتطور والمراجعة بفعل التدافع والحراك الذي شهدته الساحة التونسية منذ سبعينيات القرن الماضي بين التيار الاسلامي والتيارات اليسارية عموما. وقد رُصِدَ هذا الأمر منذ بداية الثمانينات وخاصة في كتاب الحركة الاسلامية في تونس للأستاذ عبد اللطيف الهرماسي. - أن الحراك الفكري والسياسي في المستقبل سيكون أساسا داخل المجتمع بعيدا عن تدخل الدولة. وبالتالي سيكون للمجتمع المدني دور كبير وأهمية قصوى في تحديد وجهات الرأي العام الفكرية والسياسية والثقافية. وهذا هو الأهم لأن نتائجه طويلة الأمد وفيه مسؤولية كبيرة على الأحزاب والمنظمات باتجاه دعم قيمة المواطنة وما حولها من قيم كالحرية والمشاركة وحق الإختلاف.