ليست المرة الأولى التي تفتتح فيها أعمال التفاوض على قضايا المرحلة النهائية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فقد سبقت مؤتر أنابوليس محطات عدة بعد أن تم التوصل إلى اتفاق أوسلو التدريجي المتعدد المراحل، كانت أبرز المحطات مفاوضات كامب ديفيد في جويلية 2000 بين ياسر عرفات وإيهود براك، واقتراحات الرئيس كلينتون في ديسمبر 2000، ومفاوضات طابا في شهر جانفي 2001 وكانت هذه آخر مفاوضات فلسطينية-إسرائيلية على قضايا المرحلة النهائية، حيث جرت بعدها الانتخابات الإسرائيلية وتولى على إثرها شارون رئاسة الحكومة الإسرائيلية وعمل على إلغاء كل ما تم التوصل إليه بين الجانبين، وأعاد الصراع إلى أساساته وأصوله وحاول إلغاء الآخر الفلسطيني وشطبه، وكان عنوان العلاقات الإسرائيلية-الفلسطينية الموت والاغتيال وإعادة إحتلال المناطق التي انحسر عنها جيش الاحتلال منذ سنة 2001، توقفت المفاوضات السياسية الفلسطينية - الإسرائيلية ليس فقط على قضايا المرحلة النهائية، بل وشمل التوقف بحث الاحتياجات الضرورية للفلسطينيين، وباتت العلاقات والمفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية أمنية فقط، مرتبطة بضباط جيش الاحتلال وأجهزته الأمنية، وبات الإسرائيليون يكرهون سماع كلمات القدس واللاجئين والمستوطنات والحدود، باعتبارها عناوين لقضايا حيوية مهمة ومركزية بالنسبة لهم وللفلسطينيين، وعناوين لصراع وخلاف أزلي، وهي بالتالي تستوجب التنازل والتراجع أو المساواة والتوصل إلى حقوق واقعية نحوها. الإسرائيليون لا يريدون مفاوضات جدية على قضايا المرحلة النهائية: القدس واللاجئون والمستوطنات والحدود والمياه، بل يسعون لإطالة أمد الوضع الحالي لأطول سنوات ممكنة حتى يتمكنوا من فرض المزيد من السيطرة على الأرض ويبقى مصير الفلسطينيين وحركتهم بأيدي جيش الاحتلال، فالكيان الإسرائيلي يسعى دوما لإيجاد الذرائع قصد التملص من كل الاتفاقات والبروتوكولات التي تحدد مصير عناوين وقضايا المرحلة النهائية والتي تعني بالنسبة لهم خسارة القدس، استيعاب اللاجئين وتعويضهم، إزالة المستوطنات، ترسيم الحدود، تقاسم المياه هذه هي العناوين الحقيقية للقضايا الخلافية موضوع الصراع على الأرض وستنعكس على الطاولة. وفي ذلك تكمن أهمية أنابوليس بالنسبة للفلسطينيين، ليس باعتباره منبرا ومؤتمرا واجتماعا دوليا مفتوحا على محطات التلفزات العالمية بل باعتباره خطوة أعادت المفاوضين إلى الطاولة، لبحث قضايا استراتيجية مفصلية قد تنهي صراعات طال أمدها وتعيد حقوقا أقرتها قرارات الأممالمتحدة 181 و194 و242 و1379 و1515، إلا أن الإسرائيلي ذهب إلى أنابوليس مرغما ومحرجا أمام العالم. ان إسرائيل لا مصلحة لها في جدية المفاوضات وليست جاهزة للسلام وإنما ذهبت إلى أنابوليس بضغط أمريكي، بعد أن تعرض الأمريكيون لضغوط مماثلة من طرفين أولهما من أوروبا وثانيهما العرب وذلك على إثر تورطهم في العراق واستنزافهم وكذلك فشلهم في ادارة المعركة مع إيران وسوريا وحزب اللّه، إضافة إلى فشل الإسرائيليين في احكام سيطرتهم على الشعب الفلسطيني والحد من تساقط صواريخ «القسام» على المستوطنات أي أن الأمريكيين والإسرائيليين لم يذهبوا إلى أنابوليس لسواد عيون الفلسطينيين أو محبة لهم ورغبة في إعادة حقوقهم المنهوبة من قبل المشروع الاستيطاني الإسرائيلي التوسعي، بل ذهبوا مرغمين، فالأمريكيون عنوان للفشل في العراق ومع إيران وسوريا، أما إسرائيل فهي تعبير عن الفشل في فلسطين ولبنان. وما جولة جورج بوش المنتظرة في مستهل السنة الجديدة إلى الشرق الأوسط إلا فرصة أخيرة لدفع عملية السلام وقد تكون رغبة أمريكية في فرض السلام وفي تسوية ملفات سياسية أخرى عالقة في المنطقة كالملف الإيراني والأزمة اللبنانية وربّما التمهيد لإنسحاب مفاجئ من العراق. ولأن المجتمع الدولي والبلدان العربية والشعب الفلسطيني الراغبين في السلام لا يمثلون رقما في المعادلة الدولية ولا يملكون من القوة والتأثير ما يعطيهم إمكانية فرض السلام بالشكل الذي يمكن أن يفرضه الأمريكي الذي طالما ساند الموقف الإسرائيلي وبشكل متواصل إلى درجة الدعم الأعمى تماما كما استند إلى غياب وضعف الإرادة الدولية القادرة على فرض الحل العادل والتوازن للصراع في كامل المنطقة، فهل تتحول هذه الفرصة التي يتحدث عنها الجميع إلى فرصة حقيقية لتحقيق السلام العادل والشامل في منطقة الشرق الأوسط لإنهاء صراع استمر منذ عقود وبالتالي تستطيع القيادة الفلسطينية ومن ورائها الشعب الفلسطيني وبدعم من المجتمع الدولي خلق المزيد من الآليات التي يمكن أن تتضافر في تحويل عملية السلام من مجرد محاولة ومن مجرد عملية إلى ضرورة إقليمية ودولية أكبر تعيد للقضية الفلسطينية مكانتها ووهجها في سلم وأولويات المجتمع الدولي وتكون بذلك قد أخرجت القضية من الزاوية التي تم حشرها فيها على مدى السنوات الطويلة وكادت تؤدي بها وتحولها إلى مجرد نزاع محلي إسرائيلي-فلسطيني في إطار منطقة نفوذ إسرائيلية خاصة وبتفويض أمريكي صريح بذلك - فإذا نجحت مفاوضات المرحلة النهائية - تكون بذلك قد أعادت (للقضية) الغطاء الدولي والاقليمي الكافي أو الضروري للحفاظ على ما تمثله من أهداف وطنية فلسطينية توطد مكانة القيادة في المعادلة الداخلية وفي عملية إعادة بناء ما دمره الاحتلال وما لحق بالمجتمع الفلسطيني من أذى على مستوى البنية الوطنية والنسيج الاجتماعي ولحمته الداخلية على طريق وحدته من جديد وتوحيد جهوده وطاقته في معركة إنهاء الاحتلال وتحقيق الحرية والاستقلال. وحتى لا تنتهي أنابوليس كغيرها من المحطات السابقة مثل كامب ديفد وطابا بسبب التعنت الإسرائيلي فللمفاوضات عوامل وأوراق وقدرات وأدوات، من يستغلها ويجيد إدارتها يكسب ومن يتردد يخسر وينتظر...