بقلم: سمير التليلي لا أحد يشك اليوم أن المنوال الاقتصادي المعمول به بتونس منذ أن تم طي صفحة التجربة الاشتراكية لحكومة أحمد بن صالح هو منوال مبني على ميزة ضعف تكلفة اليد العاملة التونسية. هذه الميزة مكّنت من تطوير قطاعين جوهريين للاقتصاد الوطني هما السياحة و الصناعات المعملية المصدرة كليا. فحكومة الهادي نويرة التي أتت برياح الليبرالية منذ بداية السبعينات اختارت المخاطرة على تطوير السياحة الجماعية و تشجيع انتصاب وحدات إنتاج معملية تابعة لشركات أوروبية التي لاقت في نقل وحداتها الإنتاجية المتطلبة لكم هائل من اليد العاملة إلى تونس ربحا في تكاليف الإنتاج. هذين القطاعين يمثلان اليوم لوحدهما أكثر من 80% من مداخيلنا بالعملة الأجنبية ويشغلان أكثر من مليون عامل بصفة مباشرة أو غير مباشرة. ويعتبر رجال الاقتصاد عادة هذا المنوال سياسة مرحلية أو انتقالية تمكن الدول الفقيرة من بعث النواة الأولى لاقتصاد مُصنَّع يمكّنها في مرحلة ثانية من الارتقاء إلى مصاف الدول المتقدمة بعد أن يقع توظيف التكنولوجيات المكتسبة من هذه التجربة لتطوير نشاطات خاصة بها تمكّنها من اكتساح الأسواق العالمية. في تونس ساهم هذا المنوال بقسط وفير في إدخال حركية اقتصادية للبلاد خلال الأربعين سنة الماضية مكنها من تحقيق نسبة نمو معتبرة. ولكن عوض أن يمثل سياسة مرحلية فقد صار سياسة الدولة الدائمة في الميدان الاقتصادي. فقد مكن هذا المنوال من خدمة مصالح كل المتداخلين في الميدان، فأصحاب القرار الأجانب حققوا اقتصادا كبيرا في تكلفة إنتاجهم بينما حقق شركاؤهم من رجال الأعمال التونسيين ثروات ضخمة في الوقت الذي امتصت فيه الدولة طلبات التشغيل المتزايدة لما يتطلبه قطاعا السياحة و النشاطات المعملية من يد عاملة. ويبقى نمو هذين القطاعين مرتبطا بصفة وثيقة بحرفائنا الأوربيين الذين سيواصلون القدوم للاستجمام بتونس طالما تبقى تكلفة إقامتهم بيننا في المتناول. نفس الشيء ينطبق على شركائنا الأوروبيين أصحاب الوحدات المعملية المنتصبة بتونس الذين سيواصلون حتما الإنتاج بيننا طالما أن تكلفة العمل باقية دون المستوى الذي يجعلهم يعيدون التفكير في ربحية إنتاجهم بتونس. هذا يقودنا لاستنتاج أن اكتساحنا للأسواق الأوروبية التي تحتكر أكثر من 90% من مبادلاتنا التجارية الدولية ليس وليد دورنا الريادي في بعض التكنولوجيات الحديثة أو قدراتنا على الخلق و الإبداع في المنتوجات و إنما يرجع بكل بساطة لضعف تكلفة الإنتاج عندنا و زهد الاستجمام السياحي بمنتجعاتنا. إذ يبقى من البديهي أنه حالما تضمحل هذه الميزة النسبية المبنية عن ضعف تكلفة العمل بتونس، و يصبح منافسونا المباشرون المتكونون من المغرب و مصر وتركيا على مقدرة من تقديم منتوج مماثل بثمن أرخص فإننا لا ريب سنخسر بصفة آلية جزءا كبيرا من سياحتنا و صناعاتنا المعملية المصدرة كليا. و طالما أن منوالنا الاقتصادي سيبقى مبنيا على الميزة النسبية لضعف تكلفة اليد العاملة وما لم يصبح لنا دور ريادي في أحد ميادين التكنولوجيات أو الخلق والإبداع في منتوجات خلاقة، فسنظل محكوما علينا بمواصلة الضغط على الأجور و الرواتب بل يصبح هذا الضغط أمرا في غاية من الأهمية للمحافظة على قدرة اقتصادنا التنافسي الذي يمكن لطائفة كبيرة من مجتمعنا العيش من هذين القطاعين. فإذ اتخذنا مثلا دولة السويد المشابهة لدولتنا من حيث عدد السكان و الثروات الطبيعية و تساءلنا كيف لهذا البلد أن يصل إلى هذا الحد من الرقي الاقتصادي الذي يخوّل له التصريح بدخل فردي من أرفع الأرقام في العالم بالرغم من التكلفة الباهظة لليد العاملة عنده، فإننا سنجد أن هذا يرجع بالأساس إلى أن اقتصاده الذي يعد من الأجدى عالميا من ناحية التحكم في التكنولوجيات و الإبداع الخلاق في المنتوجات الجديدة. إذ يكفي أن نذكر أن عددا كبيرا من العلامات المشهورة دوليا والتي لها دور ريادي في ميادين تطبيقها هي من أصل سويدي،...فليس من باب الصدف أن يكتسح هذا البلد الصغير الأسواق العالمية بالرغم من ارتفاع تكلفة عماله عندما نعلم أن له درعا شاسعا من النجاحات الصناعية على المستوى العالمي. فالحرفاء الذين يريدون اقتناء منتوجاته الراقية ليس لهم خيار أخر دون دفع الثمن مهما كان غاليا. أما نحن في تونس، لسبب فقداننا للمعرفة في أي من الميادين التي تمكننا من اكتساح الأسواق العالمية بمنتوجات إبداعية تونسية المنشإ، نبقى مضطرين أن نظل مجرد شعب مستهلك لمنتوجات مصنوعة بالبلدان المتقدمة و سيبقى اقتصادنا راضخا لصناعاتهم. وعليه، يبدو الآن واضحا أن منوالنا الاقتصادي الحالي لا يمكّننا إلا من تصنيع بضائع مبتكرة في البلدان المتقدمة التي قررت في يوم ما أن تتخلى عن إنتاجها في بلدانها لصالحنا لتحقيق اقتصاد في التكلفة أو للحفاظ على المحيط عندهم من تداعيات التلوث المتأتية من هذه الصناعات. فالطريق الوحيد الذي يمكننا من الخروج من حالة التبعيَة الاقتصادية و الصناعية التي نعيشها منذ الاستقلال تمر وجوبا بتطوير المعرفة و البحوث التطبيقية. فإن فشلنا في ابتكار سلع أو بضائع إبداعية خاصة بنا يمكن لها بخصالها الجوهرية أن تفرض مكانتها بالأسواق العالمية، فسنبقى دائما عبارة عن ورشة تصنيع لأصحاب القرار الأجانب الذين يحتفظون بالحرية التامة لتغيير مكان التصنيع لبضاعتهم كما رأينا ذلك في الأمس القريب بالنسبة لبعض الشركات المصدرة كليا المنتصبة عندنا، عندما ضاقت ذرعا بالمطالب الاجتماعية المرفوعة إبان ثورة 14 جانفى فقررت على إثرها غلق محلاتها بتونس لتنتصب ببلدان أخرى. السؤال المطروح اليوم في خضم المستجدات الراهنة هو كيف لنا أن نأتي بالحل المناسب للمعادلة الرامية لتحسين مستوى العيش للشغالين مع استبقاء الميزة الوحيدة التي ترتكز عليها القدرة التنافسية لاقتصادنا اليوم ألا وهي ضعف تكلفة العمل. لأن تحسين مستوى العيش للعمال يمر وجوبا بتحسين قدراتهم الشرائية التي لا يمكن تحقيقها إلا بزيادة معتبرة في الأجور. ويزداد هذا المأزق تعقيدا عندما نعلم أن بعض الأصوات تتصاعد كل يوم للمطالبة ببعثرة النظام الاقتصادي الحالي مطالبة بقطع الجسور مع شركائنا الأوروبيين و تهميش قطاع ذي قيمة تشغيلية هامة مثل السياحة. فإذ يؤكد البعض على أننا اليوم قادرون على الاستغناء عن شركائنا الأجانب بإعادة تركيز اقتصادنا على الفلاحة و الإنتاج الداخلي للسلع و الخدمات، فإن البعض الأخر وأنا منهم يعتبر أن مثل هذه التصريحات غير مسؤولة لأننا نفقد اليوم إطلاقا أي إمكانية أخرى تمكننا من تأمين العائدات المستلزمة لاقتناء حاجياتنا من المعدات الصناعية والمواد الاستهلاكية التي أصبحت ضرورية لحياتنا العصرية من دون قطاعي السياحة و الصناعات المعملية المصدرة كليا اللذين يساهمان وحدهما بالقسط الأكبر في تمويل ميزان المدفوعات بالعملة الأجنبية. فمن الضروري اليوم المحافظة إن لم نقل مضاعفة تشجيع كل القطاعات التي تدر علينا بالعملات الأجنبية إلى أن يأتي اليوم الذي يقع فيه تغيير منوالنا الاقتصادي الحالي ليصبح منوالا مبنيا على الإبداع والابتكار.