- هذا الشعب حيرني ودوخني فعبر تاريخه يصاب بسبات عميق طيلة عقود أحيانا ثم يهبّ هبّة واحدة فيقيم الدنيا ولا يقعدها، فبعد الاستقلال ركن إلى السكون والاستكانة، ثم انتفض كالمارد حتى أن من يراه يوم 14 جانفي بشارع بورقيبة يخال أنه في قلب "تسونامي" لا يفرّ أمامه رئيس بل يخرّ أمامه الجبابرة ساجدين ولو عنّ له آنذاك أن يحوّل جبل "بوقرنين" من مكانه إلى جزيرة " صقلية" لاستطاع، حتى أنني صحت من أعماق قلبي "ما أروعك يا شعبي" و رددت مع "حشاد" "أحبك يا شعب" بعد هذه الملحمة لا أعتقد أنه سيعود إلى كهفه ويخلد إلى سبات عميق لا يفيق منه أبدا،وحتى إن غفا فسيستفيق ويبعث من جديد ، وبما أنني مواطن بسيط لا يفهم إلا القليل في السياسة والسياسيين ليس كأولئك العباقرة الذين اتخذوا من الإذاعات والتلفزات مقرا لإقامتهم ينظّرون ويشرحون ويوجّهون.فأنا سأطلب من الشعب أمورا بسيطة كبساطتي وبساطته تخصّ علاقته بالرؤساء و المسؤولين "الكبار" وأنا واثق من أنه قادر على فعلها. أريد من الشعب ألا يصدّق كل ما يعد به المسؤولون،أو يقولونه، حتى وإن أقسموا على المصحف،لأن من سبقهم قد خان الشعب والوطن بعد أن أقسم.وحتى لا يلدغ مرتين، فاليقظة ضرورة والحذر واجب والحساب والعقاب والجزاء مطلب. أريد من الشعب ألا ينخدع فينجرّ وراء بعض المأجورين والمندسين الذين يحضرون الاجتماعات والمناسبات الرسمية لغاية التصفيق والتأييد وإبراز الولاء، أريد من الحاضرين أن يقطعوا مع مظاهر التخلف والنفاق، فكم هم أذلاء وصغار عندما يقطعون خطاب سيدهم بالهتاف والوقوف عشرات المرات مردّدين النشيد الوطني، و كم كانت خيبتي كبيرة وإحباطي عظيما وأنا أرى أعضاء المجلس التأسيسي في جلسة الافتتاح يمارسون نفس السلوك فالتصفيق أطول من الخطب والوقوف أكثر من الجلوس وترديد النشيد الوطني أكثر من مرّة في غير موضعه ومن أكثرية لا تحفظه،وعادت حليمة إلى... و كأن شيئا لم يتغير وخلت أن الرئيس السابق مازال موجودا يلقي خطابا، وأنا الذي كنت أعتقد أنّنا قد قطعنا مع هذه الممارسات المشينة وأنها ولّت وانقضت.فيبدو أن أعضاء المجلس التأسيسي لم يستوعبوا الدرس مما مضى، أو أن القبة تسحر من يقف تحتها (كي لا أقول يجلس)وتغريه بالبقاء والولاء. أريد من الشعب ألا يجامل، وألا ينساق وراء المهرولين، المتملقين، اللحاسين، المنبطحين، فهو أذكى وأقدر على التقييم والتثمين، فيصفق لمن سيحسن،ويمسح الأرض بمن سيخونه ويستخف به. أريد من الشعب ألا يترك مواقع عمله ومقاعد مدرسته ويذهب لاستقبال رئيس أو مسؤول حتى وإن وفروا له الحافلات والأكلات،وألا يقبل أن يقف صاغرا الساعات الطوال على حافة الطريق تحت الشمس الحارقة أو المطر المنهمر يهتف بحياة الرئيس رافعا صوره وصور زوجته فهذه الممارسات وغيرها هي التي غلّطت المسؤولين في أنفسهم.فالرئيس بورقيبة في إحدى محاضراته بالمعهدالأعلى للصحافة وعلوم الإخبار ذكر كيف أنه كان يقف أمام المرآة ويقول( كيفاش ياحبيب توه أنت وليت رئيس جمهورية بالحق وكيف تخرج يضربولك الموسيقى كيف الباي )وهذا الذي غلّطه في نفسه.ولنتذكر يوم 7 نوفمبر وأول ظهور للرئيس السابق وكيف هتفت الجماهير بحياته فردّ عليهم ( قولوا تحيا تونس ) لكن آنذاك ردّد الناس يحيا الزين، وهذا الذي غلّطه في نفسه.لذا لا أريد من هذا الشعب أن يعيد الكرة و يعود إلى هذه الممارسات المشينة فيركب عليه المسؤول ويدوسه ويرفسه وهو مطروح أرضا يردد الشعار الحقير: بالروح وبالدم... لا أريد من الشعب أن يعلق صور الرئيس في المؤسسات التربوية وفي مقرات مؤسسات الدولة لأنّ هذه الأماكن ملك للشعب وليست لزعيم أو لحزب ومن شاء فليعلق صوره في بيته،ففضلا عما ترمز إليه،فإنها تكلف ميزانية الدولة أموالا يمكن أن تصرف في شؤون أخرى فيكفي أن تتصوروا كم عدد المكاتب في كل الوزارات والإدارات والمؤسسات وغيرها حتى تدركوا كلفتها، والغريب في الأمر أن حجم صورة الرئيس ونوعية الإطار تختلف حسب رتب الموظفين،فإذا ارتقى أحدهم من رتبة رئيس مصلحة إلى رتبة مدير مساعد فإن صورة الرئيس بمكتبه تكبر هي الأخرى،أليس هذا من المضحكات المبكيات عندما نرى يوما هذه الصور تزال ويرمى بها في مكان مجهول كما أزيلت التماثيل واللوحات واللافتات، أو نراها يوما تكسر وتداس بالأحذية وتحرق. ما أريد من الشعب وأنا فرد منه أكثر من هذا بكثير وأعظم،ما أريد من الشعب لا تكفي المقالات التعبير عنه،ولا تفي الكلمات الإفصاح عنه،لكن لنبدأ بما نقدر جميعا على إنجازه فهذه الأمور وإن بدت بسيطة في ظاهرها،فهي جليلة في باطنها، ولتكن خطوة أولى نحو إثبات الذات، وتحقيق قدر من المساواة في إنسانية الانسان. * متفقد عام للتربية