قد لا تبدو إشكالية الاستراتيجية المتعلقة بالصراع في الشرق الأوسط، لأول وهلة، سوى إشكالية تتعلق بصراع بين طرفين، تتخلله صراعات أخرى أصغر، تدار بين الرياض وطهران.. في وقت بدأ بروز قطب آخر يدير الصراع في الشرق الأوسط، وهو الدوحة. ولعل بداية بروز الدوحة كقطب عربي جديد بدأ مع المراهنة الأمريكية عليه، كبديل للتعامل مع آل سعود في شبه الجزيرة العربية والذي ترى واشنطن أنه فشل في احتواء المد الفارسي باتجاه الغرب (العراق وبلاد الشام)، والشرق (آسيا الوسطى، الجمهوريات السوفياتية السابقة، وأفغانستان). فآل سعود فشلوا في العراق، بل وألحقت باستراتيجيتهم هزيمة كبرى، بدءا بالديبلوماسية، إلى السياسية حيث فشلوا حتى في دعم المرشح العلماني عن القائمة «العراقية» إياد علاوي، والذي أصبح في مرمى ضربات رئيس الوزرء العراقي وزعيم حزب الدعوة الشيعي نوري المالكي. ولعل هذه الساحة (الساحة السياسية العراقية) أصبحت بفعل الإستراتيجية الإيرانية، ساحة مباشرة للمد الشيعي، بل وأعلن عن ذلك في الثامن من ديسمبر الماضي عند انسحاب القوات الأمريكية من العراق، ولتربح إيران رهان العراق. وقد يكون ذلك درسا آخر من دروس الصيرورة المكانية والتاريخية في علم الاستراتيجيا بالنسبة للأمريكيين، فهم لم يقدروا أن يكونوا «جيرانا» مرحبا بهم في بلاد «الرافدين» اللذين تحولا إلى حجري طاحونة بين قوى المقاومة السنية والميليشيات المسلحة الشيعية. أخطاء استراتيجية بالجملة كانت وراء هذه الهزيمة، حيث لم «تنجز المهمة» في العراق ولن تنجز في أفغانستان، وكل ذلك بفعل الأجندة الأخطبوطية الإيرانية في المنطقة. هذه الأخطاء الجسيمة دفعت وزيرة الخارجية الأمريكية إلى الحديث عن سياسة أمريكية جديدة في مجلة «الفورين أفريرز» محورها فتح «عالم آخر»، والاتجاه إلى أراض في أعالي البحار ك«فرصة أمريكية أخرى». كتبت وزيرة الخارجية الأمريكية عن «قرن أمريكا في الباسيفيك» وتحدثت عن فرص هناك في المحيط الهادئ، وقالت بالحرف الواحد: «إنه عند شحّ المصدر (وهذه هي الحالة الأمريكية الحالية) يجب الاستثمار بتصرف محكم في الموارد».. ونفس الكلام جاء على لسان رئيس الأركان الأمريكي السابق الذي اعتبر أن القرن الحادي والعشرين هو «قرن الباسيفيك» وأن الولاياتالمتحدة ترى أن تلك المنطقة الشاسعة من العالم «منطقة حاسمة اقتصاديا» مشيرا إلى أن «السلام والاستقرار يعطيان حيوية لهذا الإقليم من العالم» ومؤكدا أن أمريكا «لن تتخلى عنه لأي أحد». لكن هل يعني ذلك أن أمريكا ستحول اهتمامها صوب «الشرق الأصفر» دون ضمان موطئ قدم ثابت في الشرق الأوسط؟ لا يمكن ذلك من منطلق الفلسفة البراغماتية الأمريكية، وباعتبار أن الاتجاه نحو العالم الآخر، جاء نتيجة للإنهاك الذي عانته وتعانيه الولاياتالمتحدة في منطقة الشرق الأوسط الكبير (حسب التقسيم الجيوسياسي الأمريكي للعالم). فالحروب الاستباقية المتتالية لم تسمح لأمريكا بأن تقلب الأوضاع الجيوستراتيجية لصالحها مباشرة، لأنها بالنسبة للمنطقة عنصر دخيل على «جيوسياسة الصراع» الموجودة في الشرق الأوسط على الامتداد التاريخي منذ العصور القديمة، حيث أن «الثابت» لا يمكن أن يصبح في نطاق «المتغير» (أو المتحول في استعارة من أودونيس) بالنسبة للتعايش والوجود في المنطقة، وإن ما كان من توجه عسكري بالنسبة للمحافظين الجدد، يجب أن يتغير، لأنه أصاب صميم عقيدة الأمن القومي الأمريكي، منذ أيام «الانعزالية» السياسية عن العالم قبل الحرب العالمية الأولى. كل هذه المعطيات فرضت حتمية إعادة النظر في الإستراتيجية الأمريكية بعد بوش، وإعادة صياغة «نهج آخر» يقف بين «الانعزال» وعدمه في المنطقة القديمة قبل الانطلاق نحو الباسفيك حيث يقف «التنين الأصفر» الذي «صحا أخيرا» (نابليون بونابرت كانت له مقولة عن الصين «لا تدعوا التنين الأصفر يستيقظ») بعد سنوات الانغلاق وراء «السور العظيم» وليبدأ في تبني الفلسفة الأمريكية في الانقضاض على الأسواق بمثل النفس البراغماتي الذي تعاملت به الولاياتالمتحدة حتى الآن، فبدأت، كمثال، تملي إرادتها على الدول والدويلات في ممرات البحر الأصفر أين تمر سنويا تجارة بمقدار 5 تريليونات دولار. وهذا التوجه الأمريكي بدأ بالإعداد لمصالحة جديدة مع دول الشرق الأوسط، فرضت نفسها أكثر بعد «الربيع العربي» المفاجئ - في توقيته، لا في توقعه بالنسبة للمخابرات الأمريكية - وهو يقضي بدعم الديمقراطيات الناشئة في تلك المنطقة وفق النفس الأمريكي، والمصالحة مع حركات الاسلام السياسي لأنها مكون أساسي في الفكر والمجتمعات في الشرق الأوسط، أثبت وجوده رغم سنوات الحصار الكبير، والعمل على تشجيع بروز قيادة سياسية جديدة في المنطقة تقود فكريا وسياسيا الدول الجديدة للحفاظ على الأسس التي سطرتها أمريكا بعد الحرب الباردة، وتكون كرأس حربة ضد المد الفارسي الذي أثبت مرونة وقدرة على تجاوز كافة العقبات التي تعوق تحقيق التفوق من حيث الردع الإستراتيجي وامتلاك التكنولوجيا النووية. ولعل ما يمكن أن نستخلصه في هذا الاتجاه أن الولاياتالمتحدةالأمريكية قد اختارت فعلا حليفا جديدا في المنطقة، يكون خير بديل للتراجع السعودي ويستطيع بفعل موقعه في قلب الخليج العربي (أو الفارسي) أن يضطلع بتلك المهمة، بعد أن سطر منذ منتصف التسعينات طريقا آخر في ممارسته للديبلوماسية في المنطقة العربية، وما يمكنه من «انجاز المهمة» بالوكالة. ولعل قطر تلك الدولة التي تحتضن مقر القيادة الوسطى الأمريكية، وصاحبة الطموح الكبير، والتي اختارت طريقا ديبلوماسيا ثالثا بين محوري «الممانعة» و«الاعتدال»، قد استطاعت أن تمارس سياسة براغماتية تجاه دول الربيع العربي، وأن تكون إلى حد بعيد أحد المسطرين الأساسيين للخريطة الجيوستراتيجية الجديدة في الشرق الأوسط، حيث استطاعت أن تطرح فرضية الاعتدال الإسلامي وأن تجمع بين أمريكا (الشيطان الأكبر) والإخوان المسلمين في بوتقة التفاهم السياسي. قطر التي ترنو منذ انقلاب سنة 1994 إلى أن تتزعم العالم العربي وفق عقيدة معدلة فكريا ل«الإخوان المسلمين» (الفكر الإسلامي البراغماتي) وفي تجاوب كبير مع الشارع العربي- السني، من المؤكد أنها ستعمل على إيجاد مرونة استراتيجية لصد الأجندة الإيرانية الشيعية، والتي بدأت بوادرها بالعمل على الإطاحة بنظام الأسد وكسر عماد التوازن الجيوستراتيجي الإيراني الذي يمر عبر «دمشق العلوية» و«حزب الله» في لبنان، فيما بدأت «حماس» بالرجوع إلى حضن الحبيب الأول «إخوان مصر»، أحد حلفاء أمريكا الجدد.