يوشكا فيشر شخصية سياسية وديبلوماسية بارزة ولامعة على مستوى العالم,سبق وأن شغل وزيراً لخارجية ألمانيا ونائباً لمستشارها من العام 1998 إلى العام 2005. وهو أحد زعماء حزب الخضر منذ ما يقرب من العشرين عاماً، ويعمل حالياً أستاذاً زائراً لدى كلية وودرو ويلسون بجامعة برينستون بالولاياتالمتحدةالأمريكية. مايتمتع به هذا الرجل من كفاءة وحذق في التعاطي مع الملفات السياسية الداخلية وحنكة وجاذبية ديبلوماسية في التحركات على مستويات اقليمية ودولية جعله يحظى بمتابعة واحترام الرأي العام الألماني كما اهتمام واسع على مستوى النخب السياسية الفاعلة في العالم . قبل فترة وجيزة كتب السيد يوشكا فيشر تحليلا سياسيا لافتا وهاما حول تطورات الوضع السياسي والأمني في منطقة الشرق الأوسط والعالم على ضوء فشل الولاياتالمتحدةالأمريكية في فرض النموذج الديمقراطي في العراق ,مستخلصا أن المنطقة تعيش الان على واقع الانزلاق الى حالة من الفوضى الشديدة. حاولنا في هذا التحليل تتبع معالم هذه الرؤية السياسية التي توصل اليها الوزير الألماني السابق ,من خلال الوقوف على تفاصيل دراسة كتبها لفائدة معهد العلوم الانسانية -بروجكت سينديكيت . كتب السيد فيشر مقيما النتائج العكسية للتدخل الأمريكي في العراق وواصفا مالات السياسة الأمريكية بهذا البلد ومحيطه الشرق أوسطي " حين تدخلت الولاياتالمتحدة في العراق عسكرياً في العام 1991، كان الهدف آنذاك يتلخص في إحداث تغيير جوهري في المنطقة بالكامل. واليوم بات من الواضح أن أي جانب من جوانب هذه السياسة لم يحقق أي نجاح يذكر. وحتى النجاح الذي حققته الانتخابات الحرة في العراق بات الآن يهدد بتقسيم البلاد بدلاً من توحيدها" لقد وقف فيشر في معرض تحليله للأوضاع بالمنطقة عما يتهددها من فوضى شديدة ,وهو ماانعكس لاحقا على تقييمه لمفاصل الأزمة فيها ومن ثمة رسمه لاستراتيجية عمل غربية-أمريكية وأوربية - في معالجة تداعياتها الداخلية والاقليمية والدولية. جاء تحليل الوزير الألماني السابق واقعيا وصادما على مستوى التشخيص وهو مايعد في نظر المراقب المنصف سمة أساسية في الشخصية السياسية البارزة والبراغماتية للرجل ,لاسيما أن ماعرف به من مواقف أيام توليه لمنصب وزارة الخارجية يؤكد أن "فيشر الدولة " يختلف عن "فيشر المعارضة" ,ولعل تجرده اليوم من الصفة السياسية الرسمية أتاح له قدرا عاليا من الجرأة في تحليل واستقراء مسارات ومصائر الأمور . تحدث زعيم حزب الخضر السابق عن الموقف الأمريكي المحرج في العراق فكتب مشخصا" إن أكثر ما تستطيع الولاياتالمتحدة أن تتمناه عند هذه النقطة هو أن تتمكن من الانسحاب على نحو يحفظ لها ماء وجهها. كانت الانتخابات الأخيرة التي شهدتها أميركا بمثابة استفتاء بشأن الحرب في العراق. كما كانت نتائج هذه الانتخابات في الواقع بمثابة جدول زمني لمغادرة "محطة العراق" وانسحاب قوات الولاياتالمتحدة قبل الانتخابات الرئاسية القادمة." وفيما يعد نوعا من خيبة الأمل في ماالت اليه السياسة الأمريكية بالمنطقة والعراق تحديدا ,كتب فيما يحمل بين السطور نفسا تشاؤميا من عمق المأزق السياسي والأمني للولايات المتحدةالأمريكية وفيما يعبر عن حالة الفراغ السياسي الذي احدثه سقوط نظام صدام حسين " وخلف هذه النهاية المتوقعة للمهمة الأميركية الرامية إلى إحلال الاستقرار في العراق، تلوح في الأفق حرب أهلية، تهدد بالتحول إلى حرب إيرانية يخوضها العرب بالوكالة، لفرض هيمنة إيران على العراق، والخليج، ولبنان، وفلسطين. هذا فضلاً عن المجازفة الخطيرة المتمثلة في احتمال اشتعال الصراع العربي الإسرائيلي بسبب خواء القوى الحادث في العراق، وتحول العراق وأفغانستان إلى أزمة إقليمية طاحنة". لقد ذهب وزير خارجية ألمانيا السابق مذهبا أبعد من ذلك حين رأي أن مكانة الولاياتالمتحدةالأمريكية تراجعت على مستوى اقليمي ودولي على ضوء استتباعات فشلها في فرض النموذج الديمقراطي المأمول بالعراق ,وهو ماترتب عنه ترك المجال مفسوحا أمام قوى اقليمية أخرى : " على ضوء الانسحاب الأميركي الوشيك، تسعى القوى الإقليمية إلى إعادة تقييم مصالحها وأهدافها في المنطقة. ولسوف تكون القوى الفاعلة الرئيسية في هذه المرحلة إيران، وسوريا، والمملكة العربية السعودية، ومصر، والأردن، وباكستان، وتركيا، وإسرائيل. لقد أسفرت الحرب في العراق عن خسارة الولاياتالمتحدة لوضعها كقوة منفردة في الشرق الأوسط، وفي أماكن أخرى من العالم". اعتبر فيشر أن الأزمة في طريقها الى افراز خارطة دولية جديدة من شأنها أن تدفع الى السطح العالمي بقوى أخرى مؤثرة في سياسات منطقة الشرق الأوسط " ومن المنتظر في المستقبل أن تنشط قوى عالمية متعددة في الشرق الأوسط الولاياتالمتحدة بصورة أساسية، وروسيا، والصين، والهند. ولنأمل أن تكون أوروبا بين هذه القوى، وذلك لأن أمنها يتوقف على الوضع في الشرق الأوسط." ان نتائج الحرب على العراق تبدو في تقدير صاحب الدراسة كارثية ,حيث أن حدود تأثيراتها تبدو لديه خارج الخارطة الجيوسياسية لهذا البلد ,ولعل ماتحمله كلماته بين السطور يعبر عن عمق المأزق السياسي الدولي في العراق ,اذ صارت أوضاعه الى حالة من الفوضى العارمة : " نعتبر أنفسنا محظوظين إذا ما اقتصرت الفوضى الناشئة على حدود العراق" . ملامح استراتيجية غربية لمواجهة عمق الأزمة : بعد اقرار رئيس ديبلوماسية ألمانيا السابق في دراسته المشار اليها بادراك الولاياتالمتحدة لاستحالة انتصارها في العراق ,يحاول هذا الأخير وفي جولة مكوكية نظرية الوقوف على معالم حل أو مخرج استراتيجي من القمقم العراقي ,حيث بدأ ببيان تصور سياسي يقترحه على الولاياتالمتحدة من أجل الخروج من عمق الأزمة عبر طرق ديبلوماسية تهدف الى مد الجسور سياسيا مع اطراف فاعلة في مربعاتها الأمنية " ولسوف يكون لزاماً على الولاياتالمتحدة أن تتوصل إلى اتفاق بينها وبين حلفائها وأن تدخل في محادثات مباشرة مع كافة الجهات الفاعلة الأخرى في محاولة لإيجاد إجماع إقليمي جديد ". ان الدولة الأعظم في تقدير الوزير الألماني تبقى في سباق مع الزمن ,فكلما تأخر الانجاز في تنزيل الاستراتيجية المقترحة الجديدة ,كلما تقلصت حظوظها في النجاح في معالجة تداعيات هذه الأزمة الدولية "فمع كل يوم يمضي , يزداد موقف أميركا في المنطقة ضعفاً على ضعف، وتصبح احتمالات النجاح في تبني إستراتيجية سياسية جديدة في المنطقة أبعد منالاً." بل انه يمضي في بيان محور الخطر الأكبر الذي يتهدد منطقة الشرق الأوسط ومساحات عربية واسلامية أوسع في ظل ماتمتلكه ايران من قدرات نووية وثروة باطنية , فيفصل في بيان هذا الخطر من أجل توضيح معالم استراتيجيته المستقبلية " إن الخطر الأعظم الآن يأتي من جهة إيران، المستفيد الأول من خواء القوى في العراق. والحقيقة أن إيران تتحرك وفقاً لطموحات الهيمنة التي تسعى إلى فرضها عن طريق قدراتها العسكرية، واحتياطياتها من النفط والغاز، وبرنامجها النووي، وتأثيرها الواضح على الشيعة في كافة أنحاء المنطقة، هذا فضلاً عن جهودها الرامية إلى قلب الوضع الراهن في العالم العربي الإسلامي رأساً على عقب." وفي مقابل عناصر القوة الايرانية المشخصة في الدراسة فان لايران وبحسب خبرة الديبلوماسي المرموق نقطة ضعف مركزية تكمن في عزلتها النسبية واستنادها الحصري الى محور سوريا حزب الله في مقابل محاولات التفاف اقليمي واسع على نفوذها المتصاعد بالمنطقة ,اذ يرى السيد فيشر في تشكيل استراتيجية أوربية أمريكية تقوم على أرضية النفوذ السياسي بدل التدخل العسكري أو تغيير الأنظمة ,حلا ممكنا من أجل الالتفاف على هذا النفوذ وتدعيم عنصر الاستقرار الاقليمي وهو ماكان واضحا من خلال رؤية مركزة لخصها في ثلاثة محاور " ولابد وأن تشتمل هذه الإستراتيجية على المحادثات المباشرة، والضمانات الأمنية، وتقديم الدعم فيما يتصل بالتكامل السياسي والاقتصادي". من جهة أخرى فان فيشر لايفصل بين هذه الاستحقاقات التي ينبغي أن تتمتع بها الأطراف الاقليمية المتجاوبة مع هذه الرؤية ومنطق التهديد بفرض العزلة على من يحاول زعزعة الاستقرار الاقليمي ولاسيما في محوره العربي الاسرائيلي. ان الاستراتيجية الأوربية الأمريكية المقترحة تسير وفق أربع نقاط لانرى أحسن من السياسي والديبلوماسي نفسه في التعبير عنها حين كتب ملخصا خبرة رحلاته المكوكية بين برلين وعواصم اقليمية ذات علاقة بتداعيات أزمة العراق " إن أي سياسة جديدة في التعامل مع الشرق الأوسط لابد وأن تركز بصورة أساسية على أربعة جوانب: 1) تقديم عرض شامل إلى سوريا يتضمن فك الارتباط بينها وبين إيران وتسوية كافة نزاعاتها المعلقة؛ 2) الدخول مع إيران في محادثات مباشرة بشأن التطبيع الكامل للعلاقات بين البلدين؛ 3) مبادرة حاسمة وواقعية تهدف إلى حل الصراع العربي الإسرائيلي؛ 4) إيجاد إستراتيجية أمنية إقليمية تتمحور حول نشر الاستقرار في العراق وأفغانستان." لقد تجول أستاذ جامعة برينستون الأمريكية فيشر بين تشخيص معالم أبرز أزمة اقليمية وعالمية تشهدها المعمورة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية أو منذ الاحتلال الأمريكي للفيتنام,وقدم بلاشك رؤية استراتيجية في محاور حل سياسي بديل ,وهو مايبدو رؤية منسجمة بأقدار بارزة مع تقويمات لجنة بيكر وهاميلتون لمفاصل الأزمة العراقية ,ولكن يبقى السؤال المطروح فيما اذا كانت استراتيجية فيشر ستعرف طريقها الى التطبيق أم أنها ستصطدم بتجاذبات اختلاف مصالح أوربا الصاعدة سياسيا مع موقع أمريكا المتراجعة على الساحة الشرق أوسطية والدولية في ظل تقهقر نموذجها للدمقرطة والاصلاح في العراق و في ظل ماأفرزته تداعيات الحرب الاسرائيلية الأخيرة على لبنان. *كاتب واعلامي تونسي ومدير صحيفة الوسط التونسية : [email protected]