لم تخل القيروان عبر العصور من حياة أدبية راقية ومن شعراء أفذاذ ،ناهيك أنها بلد ابن رشيق وابن شرف وإبراهيم الحصري وبلد الشاذلي عطاء الله والناصر الصدام ومحمود الباجي وكلهم أصحاب دواوين دينية عرف بها الدكتور أحمد الطويلي القيرواني في كتابه " شخصيات تونسية" ، وها هو اليوم ينفض الغبار تقديما وتحقيقا عن النسخة الفريدة الموجودة في مكتبة والده من "ديوان محمد الصيد المناري القيرواني في المديح النبوي والابتهالات". ومحمد الصيد المناري من شعراء القيروان الفحول عاش في النصف الأول من القرن التاسع عشر وتوفي سنة 1849 يتضمن ديوانه قصائد دينية فذة مطولة تلفت الانتباه لمعانيها الرقيقة وصيغها البليغة وهي في مديح الرسول عليه الصلاة والسلام. ولهذا الشاعر أيضا حسب ما ورد في هذا التحقيق الكثير من الأشعار المدحية في علماء القيروان ومقطوعات غزلية موزعة في المخطوطات والكنشات التونسية. وتعج كل قصائد محمد الصيد المناري القيرواني بمعاني التقوى والتعلق بحب الرسول وتنم عن تجربة دينية عبر عنها بصدق ورع وفي لهجة وجدانية مؤثرة مثل شكواه من الزمان في قوله : " رجوت زماني أن يسرّ فأبكاني وحاولته برء الكلام فأضناني ". وقد درّس محمد الصيد المناري القيرواني اللغة والبلاغة في جامع عقبة وتخرج على يديه العديد من الإعلام من بينهم محمد صالح عيسى الكناني صاحب كتاب " ديباجة الأعيان فيمن كان في أواسط القرن الثالث عشر بالقيروان وهو مخطوط بدار الكتب التونسية رقم 18599 وكتاب "تكميل العلماء والأعيان لمعالم الإيمان في أولياء القيروان"وقد ترجم الكناني لشيخه في هذين الكتابين فقال: " ان هذا الشيخ له ديوان شعر كبير، وتكلم في كل الأغراض كثيرا، وقصائده مطولات من الثلاثمائة بيت إلى ما دونها، مات وتركه في المسودات عند ابنه ولم اظفر به وإلا كتبت من كلامه نبذة صالحة للمرام. وقد ورد في التقديم والتحقيق الذي أعده احمد الطويلي عن ديوان محمد الصيد المناري القيرواني ان قصائده تبلغ مستوى عاليا من الشاعرية الوجدانية وحسن الصياغة وثراء اللغة، وخصب الخيال وبلاغة الصور تنطبع مطالعها في الذاكرة وتطرب النفس وتنتهي قصائده عموما بالابتهالات الحارة إلى الله تعالى والدعوات الخالصة الصادرة عن قلب متضرع، فالصيد يدعو بنبرات مؤثرة ليغيث الله القيروان بالمطر فيخلص أرضها من جفافها وقحطها فتنتعش التربة ويحيا الحيوان، وتشمل دعواته أهل القيروان ليلطف الله بهم ويشملهم برحمته وغفرانه كما يستشف من شعر الصيد بعض العناصر الذاتية ففيه معلومات عن حياته وعائلته إذ يقول: يهيم للشرق مشتاقا فتقعده زغب صغار كأفراخ الغرابيب لم يبق دهرهم ما يستعين به معلم عند تعليم وتأديب والحقيقة ان الطويلي لم يخطيء حين اعتبر ان اغلب قصائد وموشحات محمد الصيد المناري القيرواني قابلة للتلحين والغناء سواء منها الصوفية المتشبعة بالإيمان الصادق والعشق النبوي او تلك الغزلية التي كتبها الشيخ في شبابه عندما كان قلبه يختلج شوقا إلى محبوبه ويكتفي بزيارة منه حتى وان كانت في المنام وفيها يشتكي من الحساد والوشاة والعذال ويتعجب كيف يلام العاشق الولهان ولا يلام المعشوق الذي يقتل بجفونه ويعذب بهجره وبعده كقوله : يقولون، قد عرضت نفسك للهوى وكنت لدينا بالهداية تعرف فدع حبه كي تستريح من العنا وقول الخنا من عادل ليس ينصف قلت لهم: من أين ذاك أحبتي وداعي الهوى مازال بالقلب يهتف. أو قوله في موشح آخر : لحاظ عينه والحواجب مع قده الأهيف الرشيق لم تستطع شأوها القواضيب والسمر والمنتضى لمريق أو قوله كذلك: ما في الهوى كتمان يا معشر العشاق كلا ولا سلوان من خمرة الأحداق. في هذا التحقيق حافظ الدكتور الطويلي على ترتيب القصائد كما وجدها في ديوانها الأصلي وأصلح الكثير من الأخطاء النحوية والصرفية وخاصة في الرسم وشرح الكلمات الغريبة وبين بعض الوقائع التاريخية وعرف بالإعلام والصحابة وزوجات الرسول الذين ذكروا في الديوان ووضع عناوين للقصائد واعد فهرسا للأعلام والأشعار. وللعلم فان الدكتور احمد الطويلي القيرواني هو علم من أعلام تونس واحد مفكريها و أدبائها درّس في الجامعة التونسية وبجامعة هانغ كوك بسيول بكوريا الجنوبية وبقطر وبفرجينيا وبنور فلك بالولايات المتحدةالأمريكية وبالجامعة العثمانية بحيدر أباد بالهند. ألف كتبا تتعلق بالتصوف والتاريخ الإسلامي ومناقب الصحابة والأولياء الصالحين كابي الحسن الشاذلي ورابعة العدوية والحلاج ومالك ابن انس وأيمة السنة.