في إعادة بناء نظرية الردع الإستراتيجي التي سقطت في العشرية الأخيرة من القرن العشرين، يمر التفكير الإستراتيجي بالأخطار المتوقعة في بيئة سياسية واستراتيجية تغيرت إلى السلب، حيث أن خط جبهات التماس انتقل إلى داخل أراضي 48 المحتلة، معرضا للخطر الإستقرار الأمني الذي أرسى الإحتلال أسسه ودعائمه منذ كامب ديفيد سنة 1979 ووادي عربة سنة 1995 وأوسلو سنة 1994. تلك الأخطار -كما توقعنا سابقا- تبقى متجهة بالأساس إلى عنصرين أساسين: صعود التيار الإسلامي في مصر (الإخوان والسلفيون)، وإيران بمختلف عناصرها الفاعلة في المنطقة، وخاصة "حزب الله" في لبنان، وسوريا، و"حماس" في قطاع غزة. وعلى هذا الأساس فإن فقدان إسرائيل للتوازن الإستراتيجي في الجنوب يطرح تحديا جديدا مع التغيير السياسي الذي بدأ يطرأ في الشمال باشتعال الثورة في سوريا. ففي خضم الجدل الفكري السياسي يسعى صناع القرار الاسرائيليون إلى محاولة تلافي سيناريوهات دراماتيكية في وقت أصبح الجدل السياسي على خطوط التماس بين فلسطينالمحتلة وجيرانها -حيث توجد حالات فوران سياسي مربك لتل أبيب من حيث طبيعة تغييراته الاستراتيجية عليها- ميالا إلى اعتبار أن اتفاقيات السلام الموقعة مع إسرائيل ساقطة وهذا الانطباع سائد في الأوساط الديبلوماسية المصرية، خاصة وأن سيناء التي كانت بفعل المعاهدة منطقة عزل أمني لإسرائيل أصبحت إثر الثورة المصرية متنفسا ل"حماس" بعد سنوات الحصار القاسية التي فرضت على غزة وختمت بعدوان أسقط هو الآخر نظرية الردع الإسرائيلي بعد عدوان لبنان 2006. ولعل هذا المناخ الذي أحدثته العشرية الأولى من القرن العشرين إضافة إلى الانسحاب الأمريكي من العراق، جعل الإسرائيليين يسعون إلى إيجاد استراتيجية عسكرية جديدة تعمل على إعادة صياغة مبدإ الردع التقليدي، في تمش لعدم الإعتماد على "خيار شمشون" (الخيار النووي الذي تبقيه إسرائيل قيد إطار سياسة الغموض المعتمدة منذ بداية البرنامج النووي الإسرائيلي أواخر خمسينات القرن الماضي). في هذا المضمار كشفت الأركان الحربية الإسرائيلية، في السنة المنقضية، عن تفاصيل استراتيجية الجيش الإسرائيلي للسنوات الخمس المقبلة أو الخطة "حلميش"، والتي ستحل مكان الخطة "تفن" (الخطة التي كانت تحدد استراتيجية "تساهال" العسكرية في الفترة الماضية التي شهدت خلالها عدوانين على جبهتين مختلفتين: حرب تموز 2006 على لبنان والرصاص المصبوب 2009/2008 على غزة). هذه الخطة تمثل النهج الذي تحدد به قيادة أركان الجيش الإسرائيلي الخطوط العريضة للتهديدات الاستراتيجية التي تحيطها. من هذه الوجهة ترى قيادة الأركان الإسرائيلية أن تغيير النظام في مصر وفقدان "الكنز الاستراتيجي لإسرائيل"، يشكل تهديدا سيؤثر مباشرة على بنية الجيش الإسرائيلي وخاصة الجبهة الجنوبية مع قطاع غزة، في ظل انعدام الثقة مع مصر، في وقت تقدر فيه المخابرات العسكرية الإسرائيلية أن قدرات الفصائل الفلسطينية تطورت واكتشف "الموساد" أن طرق إدخال الأسلحة للقطاع تنوعت، إذ أدرك جهاز التنسيق الاستخباري أن الطريق الشمالية (إيران تركيا سوريا سيناءغزة) باتت أكبر طرق التموين اللوجستي لفصائل المقاومة الفلسطينية، بل ويفوق الطريق الجنوبي (إيران السودان مصر غزة). هذه الخطة التي تبعد مقاربة خوض حرب جديدة مع مصر في المدى القريب تفترض أن حالة الفوران قد تلزم الجيش بالتدخل في الساحة المصرية وخاصة في سيناء، وقطاع غزة الذي تكاثر منه إطلاق الصواريخ قصيرة المدى على المستوطنات القريبة من القطاع. القطاع أصبح إذن أكثر المناطق حساسية بالنسبة لإسرائيل التي كانت تتبع معه، تكتيك الدفاع الذي لم تثبت فعاليته (القبة الحديدية) في صد جميع الهجمات حيث انتهجت سياسة قديمة ومستحدثة، وهي الاغتيالات المباشرة بسلاح الجو. ورغم أن أن ضربات المقاومة من غزة على مستوطنات النقب وعسقلان وأشكول طالت مناطق قريبة بحوالي 20 كم من تل أبيب، إلا أن صواريخ غراد وقذائف الهاون بقيت من دون تأثير مهم في تلك المستوطنات إذ لم تتسبب إلا في بعض الهلع في صفوف المستوطنين لأنها عادة ما كانت تسقط في مناطق غير مأهولة، بل أدت إلى نتائج عكسية تمثلت في ازدياد الحصار على غزة، وإلى حالة ترقب اسرائيلية عسكرية على الحدود، تبعتها استعدادات عسكرية هجومية تخللها قصف بالمدفعية وغارات جوية. ولعل تلك الصواريخ التي ضربت قلب أراضي 48 وفرت للإسرائيليين أمرين اثنين: أولا/ فرصة للخروج من العزلة الدولية المفروضة عليها أوروبيا وعربيا، وذلك بالتمسك بنقطة الأمن وحماية إسرائيل كحجة ديبلوماسية. ثانيا/ فرصة التغطية الديبلوماسية على أي عمل عسكري يمكن أن تستعجل فيه إسرائيل لإعادة قلب الموازين مجددا لصالحها وإسقاط الحوار الوطني الفلسطيني الذي يمكن أن يتبنى خيارات جديدة في القطاع وهو ما لا تتحمله إسرائيل سياسيا، خاصة مع بداية التلويح بالمقاومة الشعبية في مواجهة مواصلة الاستيطان في الضفة الغربية والقدس المحتلة، وهو خيار بدأت فتح تفكر في انتهاجه (مشاركة الحركة في إطلاق الصواريخ من القطاع). ولعل صعوبة التدخل المباشر في مصر وسيناء بسبب الفيتو الأمريكي المباشر على أية حرب والتركيز على سياسة الحوار مع حكام مصر الجدد، والوضع الاقتصادي الصعب الذي فرض على وزارة المالية الإسرائيلية طلب تقليص الموازنة الحربية بأكثر من 30 في المائة، فضلا عن أن أمريكا تريد التركيز على احتواء إيران، قد يجعل صانع القرار الاستراتيجي الإسرائيلي يتجه نحو تلافي فتح أية جبهة حرب مباشرة مع مصر في المدى القريب. إن ذلك يفرض على العقيدة الاستراتيجية الإسرائيلية إيجاد عدو لضربه، في محاولة لفرض نظرية الردع، ومحاولة لأبعاد النفوذ الاستراتيجي للإخوان عن الأراضي المحتلة، ويوجب ذلك، على حد تعبير رئيس الأركان الإسرائيلي بيني غينتز "سحق حكم حماس في غزة" في محاولة للمحافظة على توازن الصراع مع الفلسطينيين في إطار السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير، دون التفكير في "حماس" التي باتت قريبة من القاهرة أكثر من دمشق خاصة مع بداية فقدان الرئيس بشار الأسد توازن نظامه. ذلك النظام الذي لا يمكن التنبؤ ببديله، إلا أن الإخوان المسلمين يبقون أكثر المطروحين بقوة لإعادة بناء النظام الجديد في سوريا، وهو سيناريو تخشاه إسرائيل، خاصة وأن الإيرانيين بدؤوا في الحديث معهم. فالإخوان تعلموا جيدا فن "السياسة البراغماتية" وهم مستعدون للتعامل مع الجميع، وذلك ما يجعل "إخوان فلسطين" (حماس) سياسيا في موقع قوة، وهو ما تسعى تل أبيب بمستوييها السياسي والعسكري لتلافيه.