مع انطلاق السنة الحالية تدخل منطقة التبادل الحرّ للمنتجات الصناعية بين تونس والاتحاد الاوروبي حيّز الارساء الفعلي بعد استكمال كافّة مراحلها التي تواصلت على امتداد فترة انتقالية استغرقت 12 سنة ابتداء من الشروع في تنفيذ اتّفاق الشراكة بين الجانبين منذ غرّة جانفي 1996. فما هي خلفيات منطقة التبادل الحرّ؟ وما هو مضمونها؟ وما هي الرّهانات والاستحقاقات التي تطرحها؟ تشكّل منطقة التبادل الحرّ بين تونس والاتحاد الاوروبي محورا أساسيا من محاور اتّفاق الشراكة الذي أسّس لنقلة نوعية في العلاقات بين الطرفين بمختلف أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ويتضمّن اتفاق الشراكة 96 مادّة موزّعة على ثمانية أبواب وذلك إلى جانب سبعة ملاحق وخمسة بروتوكولات. ويعوّض اتفاق الشراكة المبرم في 17 جويلية 1995 اتّفاق 1976 الذي لم يعد بالامكان مواصلة العمل به لاسباب قانونية واقتصادية. اتفاقات فمن الناحية القانونية، ينصّ البروتوكول الاضافي المبرم سنة 1987 على إثر انضمام إسبانيا والبرتغال إلى المجموعة الاوروبية على ضرورة مراجعة اتفاق 1976 خلال سنة 1995، وبالتالي فإن عدم مراجعة هذا الاتفاق من شأنه أن يحدث فراغا قانونيا للعلاقات بين تونس والاتحاد الاوروبي كان لا بدّ من تلافيه لضمان استمرارية العلاقات المتميزة بين الطرفين. ومن جهة أخرى فإنّ اتفاق 1976 يتعارض مع مبدأين أساسيين للاتفاقية العامة للتعريفات الديوانية والتجارة (الغات) وهما مبدأ الدولة الاكثر رعاية ومبدأ المعاملة بالمثل. منطقة تبادل حر ويقضي المبدأ الاوّل بضرورة سحب كل امتياز يمنح لبلد معيّن على كلّ الدول الاعضاء في اتفاقية الغات. ولا تُستثنى من تطبيق هذه القاعدة إلاّ البلدان التي تقيم فيما بينها منطقة تبادل حرّ أو اتحاد جمركي. ويخصّ المبدأ الثاني ضرورة تبادل المنافع ومنع أيّ امتياز من جانب واحد في حين ينصّ اتفاق سنة 1976 على منح امتيازات من جانب واحد لفائدة تونس. أما من الناحية الاقتصادية فإنّ مراجعة اتفاق 1976 أصبحت ضرورية باعتبار أنّه لم يعد يتماشى مع الواقع الاقتصادي الجديد الذي أفرزته التحولات الهامة في المحيط الاقتصادي العالمي حيث تعددت التجمعات الاقليمية وتطوّرت التجارة الدولية وتضاعفت الاستثمارات الخارجية. كما شهد العالم ثورة تكنولوجية ومعلوماتية هائلة ممّا قرّب المسافات وألغى الحدود والحماية التقليدية لتشتدّ المنافسة في مجالات الاستثمار والانتاج والتسويق. إلى جانب ذلك برزت المنظمة العالمية للتجارة كإطار عالمي منظم يغطّي أكثر من 90.% من التجارة العالمية. وقد أقرّت هذه المنظمة عدة اتفاقيات تقوم على مبادئ تحرير التجارة الخارجية والمعاملة بالمثل وقطعت اشواطا كبيرة في تخفيض الرسوم الجمركية على المنتوجات الصناعية والفلاحية علاوة على إلغاء الحواجز الكمية. وينضاف إلى هذه الاعتبارات حجم السّوق التونسية الذي يضيق بقدرات مؤسّساتها الانتاجية خاصة في ضوء عدد سكّانها ومقدرتهم الشرائية. فنسبة سكان تونس من سكان العالم 0.16% فقط. وبموجب اتفاق الشراكة بين تونس والاتحاد الاوروبي تدخل المنتجات الصّناعية التي منشؤها تونس المجموعة الاوروبية معفاة من المعاليم الجمركيّة والاداءات ذات الاثر المماثل ودون قيود على الكميات أو الاجراءات ذات الاثر المماثل وبذلك تمّ الحفاظ على الامتيازات الواردة في اتفاق 1976. أما في ما يتعلّق بالواردات التونسية من المنتجات الصّناعية من المجموعة الاوروبية فقد تمّ ضبط أربع قائمات تمّ إلغاء المعاليم الجمركيّة الموظّفة عليها وفق رزنامة تفكيك جمركي محدّدة. وتهمّ القائمة الاولى مواد التجهيز والمنتجات نصف المصنّعة التي لا يتم إنتاجها في تونس. وقد تمّ تحريرها كلّيا منذ دخول اتفاق الشراكة حيز التنفيذ (غرّة جانفي 1996). وتشمل هذه القائمة 12% من الواردات من الاتحاد الاوروبي كانت تخضع لمعاليم جمركيّة في حدود 10% وتشمل القائمة الثانية مواد أوّلية ومدخلات ومنتجات نصف مصنّعة لا يتمّ إنتاجها في تونس. وتمّ التفكيك الجمركي بصفة تدريجية خلال فترة تمتدّ خمس سنوات بمعدّل 20% سنويّا، وهو ما جعل تحريرها يتمّ بصفة نهائية سنة 2001. أمّا القائمة الثالثة فتهمّ المنتجات المصنّعة التي يتمّ إنتاجها في تونس والتي تتمتّع بمؤهّلات تنافسيّة وهو ما يعادل 30% من الواردات من السّلع. وتمّ تفكيك المعاليم الجمركية الموظفة عليها على إمتداد كامل الفترة الانتقالية (12 سنة) بمعدّل 8,3% سنويا. وبذلك يتمّ التفكيك الكامل مع بداية سنة 2008. وتشمل القائمة الرّابعة 29.5% من الواردات من الاتحاد الاوروبي المتبقية، وتضم المواد المصنّعة محليا التي لا تتمتّع بالقدرة التنافسية الكافية والتي تتطلب وحدات إنتاجها تأهيلها المسبق. وتمّ تفكيك المعاليم الجمركيّة الموظفة عليها في ما بين سنتي 2000 و2008 وبمعدّل 12,5% سنويّا. ولا يشمل التفكيك الجمركي قائمة "سلبية" لمنتجات تمثل 05% من جملة الواردات التونسية من الاتحاد الاوروبي (الالبان، الكحول، الزرابي، الملابس المستعملة...) ويمكن لتونس وفقا لاتفاق الشراكة اتخاذ تدابير إستثنائية عند الاقتضاء لاجل محدود وذلك بالترفيع في المعاليم الجمركية أو بإعادة العمل بالمعاليم المعمول بها. ولا يمكن تطبيق هذه التدابير إلا على الصّناعات الناشئة أو على بعض القطاعات الخاضعة لاعادة الهيكلة أو التي تواجه صعوبات جدّية خاصّة عندما تؤدّي تلك الصّعوبات إلى إحداث مشاكل إجتماعية خطيرة. ولا يمكن للمعاليم الجمركية عند التوريد الموظفة في تونس على المنتجات التي منشأها المجموعة الاوروبية والناتجة عن تلك الاجراءات أن تتجاوز 25% حسب القيمة. ويتعيّن الاحتفاظ بعنصر تفضيلي لصالح المنتجات التي منشؤها المجموعة. كما أنّه لا يجوز أن تتعدى القيمة الاجمالية للواردات من المنتجات الخاضعة لتلك الاجراءات نسبة 15% من اجمالي واردات المنتجات الصّناعية من المجموعة خلال آخر سنة تتوفر بشأنها الاحصاءات. ويجري العمل بتلك الاجراءات لمدّة لا تتعدّى خمسة أعوام إلاّ إذا ما أجازت لجنة الشراكة فترة زمنية أطول. ويتوقف العمل بها على أقصى تقدير عند انقضاء 12 عاما كحدّ أقصى للمرحلة الانتقالية. ويمكن للجنة الشراكة إعتبارا للصّعوبات المرتبطة بإنشاء صناعة جديدة تخويل تونس استثنائيا بالابقاء على الاجراءات المتّصلة بالتّرفيع في المعاليم الجمركية أو بإعادة العمل بالمعاليم المعمول بها لمدّة أقصاها ثلاث سنوات علاوة على الاثني عشر عاما للمرحلة الانتقالية. الخدمات أمّا بالنسبة للمنتجات الفلاحية والخدمات فقد تمّ إفرادها بإجراءات خاصّة بها تتمثّل بالخصوص في مواصلة منح امتيازات تفاضلية لفائدة تونس على أن يتمّ القيام بمفاوضات بشأنها لتحريرها بصفة تدريجية. ويبرز تقييم حصيلة منطقة التبادل الحرّ إلى حدّ الان ما أفرزته من نتائج إيجابية لفائدة تونس منها دعم الاستثمارات الاوروبية في تونس ليناهز عدد المؤسسات الاوروبية المنتصبة فيها 2700 مؤسسة وتطوّر الصادرات التونسية نحو السّوق الاوروبية التي تستأثر بما يفوق 80% من مجمل الصادرات. بيد أنّ منطقة التبادل الحرّ تطرح كذلك جملة من الرّهانات والاستحقاقات منها حتمية الارتقاء بالقدرة التنافسية للاقتصاد التونسي على الصعيدين الداخلي والخارجي ومواكبة المواصفات والمقاييس الاوروبية. وإذ أتاح اتّفاق الشراكة لتونس النهوض بالتصدير والحصول على مساعدات مالية وفنية من الاتحاد الاوروبي في نطاق الاليات المحدثة للغرض بما يُسهم في تأهيل الاقتصاد التونسي فإنّ نتائجه مازالت محدودة من حيث النجاعة والفاعلية والاندراج المأمول في الفضاء الاوروبي. وعلى هذا الاساس تتأكد حتمية تعبئة كلّ الطاقات للنهوض بجودة المنتوجات التونسية والحدّ من كلفتها والارتقاء بها إلى مستوى المواصفات الاوروبية إلى جانب العمل على استغلال كامل الحصص المتاحة ضمن اتّفاق الشراكة لتصدير المنتوجات الفلاحية إلى البلدان الاوروبية وخاصة منها منتجات الفلاحة البيولوجية التي تكتسب تونس فيها ميزات طبيعية. وتتأكّد كذلك ضرورة النهوض بقطاع الصناعات الغذائية بما يسهم في تحويل وتكييف الانتاج الفلاحي حسب المواصفات المطلوبة لتسويقه في الفضاء الاوروبي والسعي إلى توسيع الفترات الزمنية التي يرخّص فيها للمصدّر التونسي ترويج إنتاجه في السوق الاوروبية. كما يتحتّم السعي إلى تذليل الصعوبات والعقبات التي تحول دون إنجاز المشاريع والبرامج التنموية المموّلة من قبل المفوضية الاوروبية بالمستوى المأمول فضلا عن حثّ الجانب الاوروبي على إحكام تجسيم تعهّداته لبلوغ الاهداف التي تضمّنها اتّفاق الشراكة في مختلف المجالات وخاصة منها تعصير الصناعة وتطوير أداء القطاع الفلاحي والنهوض بالبحث والتكنولوجيا وتنمية الموارد البشرية وحماية البيئة.