- ليس هذا جردا لمكاسب الثورة في عامها الأول، فالوقت لا يزال مبكرا جدا لتعداد المكاسب، وكذلك حتى لا يتحول شهر جانفي إلى نوفمبر آخر نعدد فيه الإنجازات ثم نكتشف أن الحصاد كان خرابا يبابا، هذا بالإضافة إلى أن حديث الإنجازات أساسا غير مقبول ذوقيا ويبعث على الغثيان. ولكنها مجرد ملاحظات نقدية حول بعض المواقف السلبية التي رافقت الثورة منذ بدايتها، ورغم أن بعض هذه الملاحظات قد تجاوزته الأحداث إلا أن ما يلاحظ اليوم هو أن العقلية التي قادت إلى تلك المواقف لم تتغير بعد ولازالت تنتج مواقف بائسة أخرى في شكل جديد. بالتالي فلا بأس من إعادة تسليط الضوء عليها بحثا عن التجاوز. لا بد في البداية من الإقرار بأنه رغم كل العيوب والسلبيات الموضوعية والذاتية، فإن الثورة استطاعت أن تجترح لنفسها خطا تصاعديا في النجاح وفي القطع الذكي مع كل رواسب الديكتاتورية مع أنها كانت تلقائية وغير مؤطرة فكريا وإيديولوجيا سواء في تحديد مسارها العام أو حتى في خلق الهياكل المدنية التي انبثقت تباعا مع انتقال الثورة من مرحلة إلى أخرى. إلا أن هذه الميزة الفريدة، وربما غير المسبوقة، هي التي أسالت فيما بعد لعاب بعض الأطراف التي حاولت بشتى الطرق أن توظفها سياسيا وإيديولوجيا لصالحها، عندما عملت على الربط القسري وغير الموضوعي بين الحراك الثوري الذي نجح في إسقاط النظام وبين نضالاتها السابقة التي تمت في الماضي وكانت في سياق آخر مغاير تماما للسياق الحالي، هذا من جهة، ومن جهة ثانية فقد سعت كذلك إلى الانقضاض المباشر على أغلب الأطر التي ساهمت في إنتاج الفعل الثوري سواء في المجال الافتراضي أو الواقعي، وحتى ما سمي بمجالس حماية الثورة التي تشكلت مباشرة إثر سقوط النظام، فإنها سرعان ما انقلبت من لجان أهلية ومدنية غايتها تفعيل المسار الثوري بالبلاد إلى مجرد خلايا تابعة لأحد الفصائل السياسية الذي سارع بالإستحواذ عليها بشكل مكثف ليحولها في الأخير إلى أداة من أدوات اشتغاله السياسي والحزبي، مما يذكرنا بالدور الكاريكاتوري المبتذل الذي كانت تلعبه «لجان الأحياء» في رفد أنشطة الشعب الدستورية التابعة للحزب الحاكم السابق. وهذا التوظيف لم يكن اعتباطيا بقدر ما كان في إطار محاولات واضحة المعالم من بعض القوى لإعادة خلط الأوراق من جديد وللزيغ بالثورة نحو مسارات أخرى لا علاقة لها بما قامت من أجله، وكان كل ذلك يتم وسط عاصفة من التشكيك ومن الإتهامات الجزافية التي كانت تطلق هنا وهناك، وكذلك من الحملات «الفيسبوكية» الممنهجة والمدروسة، وذلك بغاية الإبقاء على حالة الترقب والتوجس وانعدام الإطمئنان لدى المواطن حتى تتهيأ لها الأرضية المناسبة لأخذ زمام المبادرة من جديد. حتى أن الإنطباع الذي كان سائدا حينها لدى المتابع للشأن التونسي هو أن أغلب الذين صنعوا يوم الرابع عشر من جانفي قد تراجعوا إلى خلف الصورة وانكفأوا على أنفسهم، في حين أصبح ركح المسرح مرتعا لمحترفي الشعوذة السياسية والإنتهازية الإيديولوجية من الذين هالهم أن يقوم شعب تونس بإنجاز ثورة في غفلة منهم ودون أن يقوموا هم بتأطيرها وتوجيهها وقيادتها. مثل هذا المشهد السيريالي كنت قد عاينته بأم عيني في صفاقس يومي 15 و 16 جانفي 2011 وتحديدا في التجمعات الشعبية التي انتظمت أمام الإتحاد الجهوي للشغل ومقر الولاية، حيث كانت هناك العشرات من الوجوه التي لم يكن لها أي حضور فعلي يذكر قبل 48 ساعة، ارتفعت أصواتها فجأة يومها وأصبحت تتحدث عن الثورة بكل وقاحة، بل وذهبت إلى حدود المزايدة على الآخرين في الثورية والنضالية، والأدهى والأمر أن بعضها اليوم يتربع على كرسيه الوثير تحت قبة المجلس التأسيسي. هذا المنعرج هو الذي أفرز ما يمكن تسميته ب»ثوار 15 جانفي» الذين حاولوا تشكيل أولويات جديدة وضبط جدول أعمال جديد لا علاقة له بالأهداف الحقيقية للثورة. وقد استطاعوا خلال الفترة الماضية أن ينحرفوا بالنقاش العام داخل المجتمع عن القضايا الجوهرية التي نادت بها الثورة والاشكاليات الكبرى التي طرحتها عملية الانتقال الديمقراطي نحو قضايا أخرى لا تمثل أية أولوية على الأقل في المرحلة الراهنة، من قبيل إثارة مسائل الهوية والتطبيع مع الكيان الصهيوني... لأنها ببساطة مسائل محسومة سلفا لدى الغالبية العظمى من أفراد الشعب والنخبة وليس من المقبول إطلاقا أن يقع التلويح بها في المعارك السياسية والحزبية. فلا طائل إذن من وراء خلق أعداء وهميين وخوض معارك وهمية بنية استعراض العضلات وكأن مسألة الهوية باتت ملكا إيديولوجيا لطرف دون آخر، أو لكأن الأعداء الخارجيين قد باتوا على مرمى حجر من أسوارنا ! والغريب أن جميع هذه التجاذبات والمواقف المتوترة كانت تتم باسم الحفاظ على الثورة وتصحيح المسار، ولم يكن من العسير تمييز المبدئي منها عن المناور، إلا أن المفارقة هنا هي أن بعض القوى السياسية التي نشطت خلال الأشهر الأولى للثورة في اتجاه التحريض على تنظيم الاعتصامات والاحتجاجات والدعوة إليها بشكل غير مباشر، رغم أّن الوضع العام بالبلاد حينها كان على كف عفريت، وكانت احتمالات الانزلاق نحو الفوضى الشاملة واردة جدا في أية لحظة، ورغم ذلك فإن هذه القوى تمادت في ذلك النهج التصعيدي تلبية لغرائزها «النضالية» التي يبدو أن الثورة فاجأتها دون أن تتمكن من إشباعها. نفس هذه القوى تحولت اليوم إلى التباكي والشكوى من تتالي الاعتصامات حينما ارتقت هي إلى سدة الحكم ولكن بعد فوات الأوان إذ أصبحت موجة الاعتصامات تلك خارج نطاق السيطرة، وحتى اتحاد الشغل فيبدو أن كيس الرمل قد بدأ يتسرب من بين أصابعه ولم يعد بإمكانه كبح جماح مظاهر الفوضى هذه. وعوض أن تحاول هذه القوى الصاعدة التأقلم مع واقعها الجديد والتعامل الجدي مع التحديات الجديدة التي أفرزها، راحت تواصل أسلوبها السابق في لعب دور الضحية وإلقاء مسؤولية جميع العراقيل على عاتق الأطراف الأخرى متهمة إياها بالتآمر والتواطؤ. حقا كم يبدو الواقع جبارا أمام أحلام الإيديولوجيا، وكم هي ساخرة مفارقات الثورة التونسية، هذه الثورة التي رغم مزاياها وفرادتها التي جعلت منها أيقونة متلألئة في سماء دنيا العرب، إلا أنها لم تشذ عن القاعدة التي حكمت معظم الثورات عبر التاريخ وهي أن الذين يقومون بالثورة ليسوا بالضرورة هم الذين يقطفون ثمارها.