ما أحوج الجميع لجرعة دفء في موسم الثلوج المتهاطلة التي أتت على حياة الكثيرين وعزلت الكثيرين أيضا في عديد المناطق من العالم, وما أحوج الجميع لحركة انسانية تقطع مع كل مشاعر الانانية التي قد تفرضها الخلافات أو الصراعات السياسية والحسابات الحزبية الضيقة والمنافسات الدنيئة و التكالب على تحقيق المصالح الذاتية الخاصة ما خفي منها وما ظهر...قد لا يختلف اثنان أن حصيلة ضحايا موجة البرد التي تجتاح العالم كانت حتى الآن ثقيلة ومؤلمة والارجح أن وقعها سيزداد خلال الايام القادمة مع التوقعات باستمرار موجة البرد الكاسح... الحقيقة أنه من العار, ونحن في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين ان يموت طفل أو شاب مهما كان لونه أو جنسه أو عقيدته بسبب البرد أو الجوع أو بسبب فقدان كاسحات الثلوج أو نتيجة لانقطاع الطرقات أو تعذر وصول المساعدات أو الاسعاف الى شيخ أو مشرد حرمته الثلوج دفء الحياة... ولكن ما نشهده للأسف غير ذلك والاخبار المتواترة على وقع توقف حركات الملاحة بسبب الجليد وتعطل الرحلات الجوية وانقطاع التواصل بين عديد المناطق انما يكشف أن زوال التحديات أو على الاقل الحد منها ليس بالحدث الوشيك وطي صفحة هذه المآسي لن يكون بالأمر القريب... مرة أخرى نقف لنستلهم من الطبيعة دروسها وهي تسقط الاقنعة تباعا و تكشف عورات الانظمة والحكام وأنانية الاتفاقات والمعاهدات الدولية التي اسقطت من حساباتها قيمة الحياة البشرية لتحل محلها لغة العقود والدولارات , ومرة أخرى نقف ليس من دون احساس بالخجل والصفع أمام دروس الطبيعة القاسية في أكثر الاحيان وهي تذكرنا بأن استباق الكوارث الطبيعية والاستعداد لها أمر لا مناص منه وأن استحداث خلايا ازمات متعددة لمواجهة تداعيات الفيضانات والزلازل والاوبئة والثلوج و غيره أمر لا يقبل مزيد التأجيل و لا يمكن مواجهته بمعزل عن جهود الجميع... لقد كشفت الاحداث المتواترة مع استمرار موسم الثلوج لهذا العام من أوروبا الى آسيا و أمريكا و حتى شمال افريقيا إن غضب الطبيعة لا يستثني أحدا وأن كل الشعوب مهما تعددت امكانياتها ومهما بلغ مستوى التقدم العلمي و الرقي الاجتماعي فيها قد تعجز في مواجهة بعض مصاعب الطبيعية منفردة... نقول هذا الكلام و نحن نعيش في تونس على وقع امتداد موجة البرد في ربوع البلاد واستمرار تساقط الثلوج التي عزلت الكثيرين لاسيما في المناطق الاكثر خصاصة وبؤسا وافتقارا لأبسط مقومات الحياة. ومع ذلك فان التونسي لم يكن في حاجة لدعوة رسمية أو نداء من مسؤول ليبادر بتقديم ما يمكنه تقديمه من مساعدات لفائدة الاهالي المنكوبين في مختلف مناطق الشمال الغربي والاصرار على أن يساهم في تخفيف معاناة الضعفاء والمبتلين بسبب استمرار تهاطل الثلوج. بل يكفي تأمل مشاهد تلك الخيم المنتشرة في مختلف مداخل الاحياء و المدن في البلاد وتنافس الكثيرين من نساء وشباب وأطفال على التطوع لخوض السباق وجمع المساعدات لنكشف مجددا ذلك الجانب الخاص في طبيعة كل تونسي الذي قد نراه في أحيان كثيرة مشاكسا متشنجا لا يعرف للصبرمعنى عندما يتعلق الامر برفع صوته للدفاع عن حقوقه فلا يتردد في التلويح بالاعتصام والاضراب ولكنه هو أيضا ذلك المواطن الذي يؤثر على نفسه ولو كانت به خصاصة فلا يتردد في تقديم ما بين يديه لنصرة غيره ومساعدته على مواجهة الصعاب. انه ذلك التونسي الذي اكتشفناه جميعا قبل أشهر وهو يستقبل عشرات الآلاف من اللآجئين الهاربين من جحيم كتائب القذافي فلم يتردد في احتضانهم واقتسام لقمة العيش معهم ليوفر لهم السقف الآمن والماء و الدواء... جميل ذلك الوشاح الابيض الذي غطى عديد المناطق في بلادنا حتى أنه قد يعجزخيال وابداع أمهر الرسامين في نقله, و لكن أجمل منه ذلك المواطن التونسي الذي بهرنا بتلقائيته و كرمه فلم تدرك يده اليمنى ما قدمت يده اليسرى...