بقلم: صالح عطية "لعب" الوفد الحكومي الذي زار المملكة العربية السعودية خلال الأسبوع المنقضي، على ثلاثة "أوتار" رئيسية هي: كيفية استئناف العلاقات الثنائية على أسس جديدة، وتقديم صورة عن المشهد السياسي والاقتصادي في تونس، في ضوء الاستحقاقات القادمة، بالإضافة إلى اتجاهات الدبلوماسية التونسية بعد ثورة 14 جانفي وفي أفق المرحلة المقبلة.. ولا شك أن السيد حمادي الجبالي، رئيس الحكومة، كان أمام "امتحان" شديد الحساسية، فقد كان مطالبا بإزالة التشويش الحاصل حول ما يجري في تونس، وهو تشويش تسبب فيه قسم هام من الإعلام، وبخاصة القناة الوطنية، التي أثار أداؤها انتقادات واسعة وشديدة اللهجة من الجالية التونسية الموجودة، سواء في جدّة أو في الرياض، كما كان الرجل مطالبا بإقناع المستثمرين ورجال الأعمال السعوديين، بضرورة "العودة" إلى الفضاء التونسي، بعد حالة قطيعة وغضب من النظام التونسي السابق، وعمليات الابتزاز و"النهب" التي كان يمارسها مع رجال الأعمال، خصوصا السعوديين والخليجيين بالتحديد..
الرهان.. والمطالب
السيد الجبالي، راهن بشكل واضح على إقناع وسط المال والأعمال في السعودية، بالمناخ الجديد المتوفر في تونس، حيث تتهيأ الحكومة لتعديل قانون الاستثمار، وإلغاء التأشيرة عن السعوديين، وإيجاد "شباك موحد" يبعد المستثمرين عن جحيم البيروقراطية الادارية، وإعادة النظر في القوانين المنظمة للبنوك والسوق المالية.. في مقابل ذلك، طالب رجال الأعمال السعوديون، بضرورة إيجاد "آليات" للإسراع بإنجاز المشاريع المزمع تنفيذها في جهات مختلفة من البلاد، وألمحوا إلى ضرورة جعل قانون الاستثمار "أكثر انفتاحا" قياسا بالنصوص الحالية، ودعوا على مراجعة مسألة تحويل الدينار التونسي، وضمان حق الملكية وحرية نقل أموالهم وأرباحهم، وهو ما كانوا ممنوعين منه خلال المرحلة السابقة.. بالطبع، كانت هذه "المطالب" قد قدمت على خلفية ما لاحظوه من إرادة سياسية تونسية لتطوير واقع الاستثمارات في تونس، لكن الأمر الذي شدّ انتباه رجال الأعمال في لقاءاتهم مع رئيس الحكومة ومع وزير الاستثمار والتعاون الدولي السيد رياض بالطيب، هو أن المسؤولين التونسيين تعاملوا مع موضوع الاستثمارات على قاعدة "الشراكة الندية"، وليس بمنطق الاستجداء، رغم الحاجة التونسية لأية لبنة استثمارية جديدة تنبت في بلادنا..
استحقاقات المرحلة
ولعل الذي لفت أنظار الساسة ورجال الأعمال في المملكة العربية السعودية، "الخطاب السياسي" الذي أفصح عنه رئيس الحكومة، وطبيعة الاستحقاقات الضخمة التي تنتظر التونسيين خلال المرحلة المقبلة، بدءا بإعداد دستور للبلاد، ومزيد إرساء الديمقراطية والمؤسسات المعبّرة عنها، والقوانين المهيئة لها، وتوسيع نطاق الحريات وهو الموضوع الذي وصفه السيد حمادي الجبالي ب"أهم المسائل" التي تراهن على حمايتها وتأصيلها قانونيا ودستوريا وفي مستوى تقاليد العمل السياسي، وتطرق في ذات الوقت إلى الإعلام العمومي، لكنه لم ينسق مع موجة الاحتجاجات التي رافقت اجتماعاته بالجالية، بحيث كان واضحا في موقفه عندما لاحظ "بأن من حق الجميع نقد الإعلام، لكن من واجبنا جميعا احترام السلطة الرابعة والإعلاميين"، معتبرا أن "الانفلات الإعلامي المسجل حاليا، هو جزء من انفلاتات عديدة، سياسية وأمنية واجتماعية"، فالبلاد والكلام للجبالي "خارجة للتو من ثورة، وينبغي تفهم ذلك ووضعه في هذا الإطار".. لكن رئيس الحكومة كان واضحا في رسالته، بأن "الحرية لا تتجزأ"، وأن ذلك "خيار شعبي" لا يمكن التخوف منه، وبأن الحكومة الراهنة التي وصفها ب"المنتخبة والشرعية"، لا تخشى الحريات، بل سيكون هذا الموضوع رقما أساسيا في معادلاتها وأجندتها، رافضا أية مزايدات من أحد على مكوناتها الثلاثة (النهضة والمؤتمر والتكتل)..
أما بخصوص "الوتر الثالث" الذي "عزف" عليه رئيس الحكومة، فيتعلق بالدبلوماسية التونسية، وهنا شدد الجبالي على أن المنطق القديم الذي قاد السياسة الخارجية التونسية، قد ولّى وانتهى، وتونس اليوم لا بدّ أن تقدم صورة "للدبلوماسية السيادية" التي لا ترتهن لأجندات، ولا للقوالب الحالية في التعاطي مع القضايا والمستجدات، وهو ما يفسر الموقف التونسي القاضي بطرد السفير السوري، الذي اتبعته دول عديدة، شرقا وغربا، والتنسيق التونسي مع دول المغرب العربي لاستئناف القطار المغاربي المعطل تحركه، والملف الفلسطيني، من خلال بحث عملية المصلحة بين فتح وحماس.. هذه "الأوتار" الثلاثة، استقطبت الساسة السعوديين، الذين لاحظوا أنهم بصدد خطاب سياسي جديد، وأمام "أجندا" واضحة، لا تتكلم باسم زعيم أو رئيس حزب، بقدرما "تنطق" باسم مصالح شعب واستحقاقات ثورة..