- في تونس هناك أوجه عديدة لاندلاع الأزمات فقد يكتفي البعض بتصريح مثير إما للتجريح أو للتشكيك أو لطرح علامة استفهام تظل معلقة لا تجد جوابا شافيا فيما يلجأ البعض الآخر إلى عمل استفزازي فيه الكثير من الرمزية وفيه رسالة أو أكثر يرمي أصحابها تبليغها إلى أصحابها على أن يكون الجانب الشكلي أبلغ من المحتوى. والأزمة المفتوحة بين حركة النهضة والاتحاد العام التونسي للشغل لم تندلع إثر تصريح، بل من أعمال استفزازية حيث كانت البداية عملية وضع القمامة أمام مقر الاتحاد بعد إضراب عمال البلدية، مرورا بالاعتداء على ضريح فرحات حشاد، وانتهاء بحرق وتخريب مقرات جهوية تابعة لاتحاد الشغل. ورغم نفي حركة النهضة الاتهامات بأنها تقف وراء تلك الأعمال الاستفزازية استفحلت الأزمة بين الجانبين، ليس نحو القطيعة العاجلة بل نحو التصعيد التدريجي الذي لا يمكن التكهن بمدّته فما بالك بالنتائج. ولأننا في تونس لن تغير سنة من الثورة -بالتأكيد- بعض الموروثات والطباع لدى أولي الأمر، والمقصود في هذا السياق هو أن الأزمة تفسر وكأنها ترسيخ لمقولة أو بالأحرى لممارسة مفادها أنه لا يجوز أن يكون هناك اتحاد شغل قوي، تضاهي قوته قوة الحكومة, إذن نحن بصدد العودة إلى منطق قديم جدا، وكأن قدر البلاد هو أن لا تتعايش فيها قوى عدّة، من نظام وحكومة وأحزاب ومجتمع مدني ككل. انظروا كيف قام نظام بورقيبة بتحجيم كل القوى التي كانت تمثل احتمالا لأن تكون قوة موازية له، بل نجح في ذلك في فترات عديدة، ولكن ليس كل مرّة تسلم الجرّة, فمثلما للعصا حدود فللجزرة هي الأخرى حدود، خصوصا إن كانت تتخذ شكل إغراءات وهو ما حصل مع اتحاد الشغل في عهد بورقيبة من خلال الدخول في جبهة انتخابية مع الحزب الدستوري وغير ذلك من مظاهر «الوفاق» ولكن اتحاد الشغل لم يكن حزبا، وحتى الإغراءات التي وقع تحت تأثيرها كانت مرحلية ليبقى جوهر المنظمة النقابي صمّام أمان. فعندما أدخل الهادي نويرة البلاد إلى عهد الانفتاح الاقتصادي (بشدّة مثلما كان تنفيذ النظام التعاضدي) لم يكن يتصور أن تثمر سياسته طبقة مسحوقة وهي الكادحة والتي يذهب عرق جبينها هدرا، معتقدا أن اتحاد الشغل مازال قيد الاحتواء إلا أن أحداث جانفي 1978 أيقظت النظام من سباته.. فالاتحاد موجود وهو في نهاية الأمر حليف الطبقة الشغيلة الكادحة. أما في عهد بن علي فقد كان مبدأ التدجين واضحا حتى لا تكون في البلاد أية جهة تدّعي لنفسها القوة، وهو ما انسحب على قطاعات عديدة مثل الإعلام ومكونات المجتمع المدني من أحزاب وجمعيات، ولم تكن هناك قوّة موازية إلا لدى بعض الفرق الرياضية! ولا يبدو أن بن علي استفاد من تجربة بورقيبة، بل إنه كان يراهن على سياسة التهديد بفبركة الملفات أو فتحها في علاقته مع اتحاد الشغل، وإلى آخر لحظة اعتقد النظام منذ الأيام الأولى لاندلاع الثورة أن الأمر محدود كما حاول أن يسوّقه، لكن الاتحاد تصرّف من منطلق جوهره مرّة أخرى باحتضانه الثورة في الجهات الداخلية. واليوم وفي ظل تعددية نقابية أثارت الكثير من علامات الاستفهام يبرز الاتحاد العام التونسي للشغل كقوّة موازية لقوّة الحكومة بل منافسة على أصعدة مختلفة لأكبر الأحزاب وأكثرها شعبية أي حركة النهضة. ومن الطبيعي أن تسفر هذه الثنائية عن محاولة كل طرف تثبيت أو توسيع نفوذه على الساحة التونسية وهنا تكمن الإشكالية.. فقبل المؤتمر الأخير لاتحاد الشغل كان هناك تخوف من احتواء الاتحاد من قبل الأطراف الفاعلة سياسيا وهو ما جعل المؤتمر ينتخب قيادة جديدة بلا ملفات يمكن أن تتمّ مساومتها من خلالها.. قيادة قوية همّها نقابيّ بالأساس مع مراقبة دقيقة للوضع السياسي، وفي نفس الوقت متحسبة لكل طارئ. والواضح من خلال تطورات الأيام الماضية أن قطاع الإعلام والاتحاد استهدفتهما عاصفة نهضوية في إطار الإعداد لمرحلة ما بعد التأسيسي أي للانتخابات المقبلة، وبالتالي نكون قد عدنا على ما يبدو إلى سياسة الترويض والتعويد على الأدنى. وهنا لا بد من التوقف في ما يخص اتحاد الشغل لأن هذه المسألة ستحدث بالتأكيد شرخا واضحا بين المنظمة النقابية والنهضة ومن ورائها الائتلاف الحكومي وفي هذا السياق لا بدّ من طرح سؤال وهو: هل من مصلحة كل من التكتل والمؤتمر الوقوع في مصادمة حتى وإن كانت غير مباشرة حاليا مع الاتحاد؟ نطرح هذا السؤال ليس سعيا إلى إجابة محددة بقدر ما يقصد من السؤال هو معرفة ما إذا كانت شعبية الحزبين ستتأثر بقطيعة -مهما كانت درجتها- مع الاتحاد لأن الأمر ستكون له انعكاسات مستقبلا خصوصا عند أول موعد انتخابي. وعلى افتراض أن النهضة تريد الحدّ من قوّة الاتحاد تبقى معرفة كيفية تحرّكها، لأن الأزمة الحالية أثبتت وحدة الاتحاد وصلابة موقفه وما المسيرة التي نظمها السبت الماضي إلا دليل على أنه في هذه المرّة لن يخضع للعصا ولن يمدّ يده إلى الجزرة. وعندما يصرّح حسين العباسي الأمين العام للاتحاد بقوله: «إنهم يريدون إسكاتنا ليستفردوا بالقرار وبتقرير مصيرنا.. فليعلم الجميع أننا في الاتحاد العام التونسي للشغل نرفض أن نكون مع أيّ حزب كان كما نرفض أن نكون ضدّ أيّ حزب من الأحزاب».. فإنه يردّ على رسائل سابقة.. المعطى الوحيد الذي يتعيّن استحضاره وأخذه بعين الاعتبار هو: كم سفينة غافلة تحطمت على صخرة الاتحاد؟...