إن اصلاح الإعلام بصفة عامة صعب جدا، أما اصلاح الإعلام العمومي فهو أصعب، إن لم يكن شبه مستحيل، مهما حسُنت نوايا المعيّنين على رأسه، ومهما كانت كفاءتهم وبُعد نظرهم، وذلك لأسباب عديدة سأحاول حصرها، وبما أنني لم أنتمِ الى القطاع السمعي والبصري إلا لمدة قصيرة في بداية الثمانينات، فإنني سأركز مقالي بالأساس على الإعلام المكتوب. وقبل الغوص في الموضوع، لا بد من التذكير بأن نظام بن علي، وفي نطاق مخطط تحطيمه لكل ما من شأنه أن يمثل في يوم ما سلطة مضادة للحكم المطلق الذي أراد ارساءه في البلاد، ركّز جهوده على احتواء المنظمة الشغيلة و«تشليك» الأحزاب المعارضة والإعلام. وكانت وكالة الاتصال الخارجي، الى جانب وزارة الداخلية، الوسيلتين الرئيسيتين لتنفيذ مخططه لتحطيم الإعلام وتحييده. فلما انتصبت وكالة الاتصال الخارجي «حكما» لتوزيع كعكة الاشهار العمومي، الذي يمثل كل سنة عشرات المليارات، أصبح هاجس رضى السلطة هو «الخط التحريري» الوحيد لكل الصحف، وبلا أي استثناء تقريبا، وغدت «منزلة» القارئ ثانوية جدا، أي أن الصحف لم يعد يهمها في شيء رضى القارئ عنها وإقباله عليها، سوى الصحف الشعبوية الصفراء التي أرادت ضرب عصفورين بحجر واحد، فغرقت في التفاهة والابتذال وقصص الشعوذة، لتنعم بجزء من «كعكة» الاعلانات الحكومية، وفي نفس الوقت بحجم من المبيعات، متوجهة الى الأصناف الدنيا من القراء الذين لا يبحثون فيها عن الإعلام والاخبار، بقدر ما يبحثون عن «توسيع الخاطر» و«قتل الوقت». وفي ظل مثل هذا الوضع، لم تعد هناك أية شروط للنشر سوى ألا تغضب السلطة، ولا شيء غير ذلك، أي أنه لم تعد هناك أية غربلة، لا للمقالات ولا للصحفيين، فحتى الشروط الدنيا للاشتغال كصحفي، كإجادة اللغة والكتابة، لم يعد لها أي وجود، وأصبحت الفضائح في الجرائد، حتى التي تعتبر جدّية ك«الصباح» و«لابريس» و«الصحافة» لا تحصى ولا تعدّ، فهذه مقالات لا تستجيب للحد الأدنى من المواصفات المهنية، لغة وتركيبا وأسلوبا وأفكارا، وتتعذر أحيانا حتى قراءتها وفهم ما تحتويه. وهذه أخبار تتم «سرقتها» من جريدة الى أخرى، فتبقى «تتكركر» على امتداد أشهر!! نعم، إن الأمر لا يكاد يصدق، ولكنه كان عملة رائجة، بل هناك ما هو أغرب منه، فهناك سرقات حرفية لمقالات كاملة، ونحن هنا لا نتحدث عن السرقة من الصحف الأجنبية والأنترنات، بل من صحف تونسية ترتكبها صحف تونسية أخرى! أي أن الحد الأدنى من أخلاقيات المهنة قد غاب عن الساحة ولسنوات وسنوات!! في ظل هذا الوضع، وبما أن المحتوى التحريري لم تعد له قيمة تذكر، فإن ذلك انعكس طبعا على مستوى التأطير والتسيير، فلم يعد يراعى عند اختيار المسؤولين عن التحرير كبارا أو صغارا، أي معيار مهني أو أخلاقي أو علمي، بل أصبح المعيار الوحيد هو إما رضى السلطة، وإما «الطبع المسالم» سياسيا طبعا، أي بكلمة أخرى الشخص الممسوخ الشخصية «الطافي»، الذي مات فيه الحس الصحفي أو لم يكن موجودا فيه أصلا وأصبح يسير بالتعليمات. وإن أشخاصا كهؤلاء، الذين تربّعوا على عرش المسؤوليات الصحفية، وأساسا إدارة الجرائد ورئاسات التحرير لفترة طويلة، كان لهم دور مدمّر للقطاع، اذ غذوا فيه عقلية «الصحفي الموظف» باختيارهم لمساعديهم على شاكلتهم، أي من صنف لا يمكن أن يهدد كراسيهم في يوم ما، أما هَمّ الجميع فقد غدا منحصرا في الحصول على أقصى امتيازات مادية، ولا شيء غير ذلك، سواء بالنسبة للصحفي «العيّاش» أو «الصحفي.. البزناس»، وبالطبع فإن النتيجة الوحيدة لمثل هذا الواقع، هو أن معيار الكفاءة اختفى نهائيا من الميدان، وأصبح كل «صحفي موظف» يرى نفسه مؤهلا لقيادة المؤسسة، ولتكريس هذا الواقع أكثر، عمد النظام الى غرس عيون في كل مؤسسة صحفية، مشتريا الذمم بالمال والأسفار، عن طريق وكالة الاتصال الخارجي، وهؤلاء العيون لايزالون الى اليوم مدسوسين داخل المؤسسات العمومية وغيرها، وقد أكمل وجودهم عملية الاجهاز على القطاع، فكان أن كما قالت جريدة «لو موند» ماتت الصحافة التونسية موتا سريريا، فلم يعد هناك أي موجب لقتل الصحفيين، بما أن الصحافة في حد ذاتها قد ماتت، كما لا يجب أن ننسى أن أغلب إن لم تكن كل رخص الصحف والقنوات التلفزية والاذاعية قد أسندت أساسا لرجال من البوليس السياسي، أو المقرّبين من النظام، أو الذين قدموا له خدمات، وعدد منهم لا ينتمون للقطاع من قريب أو بعيد. هذه هي اذن «الورثة» الثقيلة لفترة ما بعد الثورة! فكيف يمكن الاصلاح، ومن أين يبدأ هذا الاصلاح؟ هذا هو السؤال الذي لا يتراءى له حاليا، على الأقل على المدى القصير، أي جواب واضح. إنني أعتقد شخصيا أن الهيئة العليا لاصلاح الإعلام لايزال أمامها عمل طويل جدا، رغم ما أنجزته في هذه الفترة القصيرة من عمرها، وأنه ليس من مصلحة القطاع وعموم الصحفيين، وكل من يغارون على الإعلام ويتوقون لإصلاحه حقا، بعيدا عن الشعارات والمزايدات، إنهاء عمرها وهي لا تزال في منتصف الطريق، فالمشاكل جمة لا حصر لها، والحلول شحيحة ضنينة، وإن الحملة التي تعرضت لها منذ انشائها، والتي تفاقمت وتعاظمت اثر صدور المراسيم (أي القوانين) الجديدة للاعلام، والتي تنادي بموتها لدليل لا لبس فيه، على أنها وضعت إصبعها على مكامن الداء، وأنها أزعجت أصحاب المصالح المتشابكة، والنوايا السيئة من «بارونات» الإعلام الذين لا يريدون له أي اصلاح، ويسعون لأن تبقى دار لقمان على حالها.