خالد عبيد مؤرخ جامعي مختص في التاريخ السياسي المعاصر بالمعهد العالي لتاريخ الحركة الوطنية. عرف عنه عدم ميله للأضواء ويؤثر غالبا العمل في صمت، رغم أنه يملك الكثير من المعطيات التاريخية التي قد تغيّر عدة مسلمات باتت وكأنها حقائق ثابتة. عرف عنه اهتمامه بما سمي محاولة انقلاب ديسمبر 1962 على الرئيس السابق الحبيب بورقيبة. وكان قد كتب مقالا في الغرض في مجلة حقائق في 2008 تم حجزه وأحرق العدد كاملا وعوض بعدد آخر، بعد أن صدرت تعليمات من السلطة السابقة في مستويات عليا بمنع صدور المقال.. تمكن بعد الثورة من إعادة اصدار المقال في احدى اليوميات التونسية، وكان للصدى الكبير الذي لاقاه الأثر الكبير في تشجيعه على بعث رسالة مفتوحة لوزير الدفاع الحالي عبد الكريم الزبيدي بتاريخ 26 فيفري، ترجاه فيه باسم المبادئ الإنسانية والإسلامية ارجاع رفات من تم إعدامهم إلى عائلاتهم حتى يقع دفنهم في عزة وكرامة..مثل ما يردد خالد عبيد دائما.. فكان أن تفاعل الوزير بسرعة قياسية معتبرا القضية قضيته الشخصية واعدا ببذل كل جهده من أجل ارجاع الرفات، وقد انفردت الصباح في عدد 12 أفريل 2011 بخبر إعلان موافقة وزارة الدفاع والحكومة الانتقالية آنذاك للقيام بإجراءات تجسيم هذا الوعد.. عن آخر مستجدات هذا الملف، كان ل"الصباح" موعد مع المؤرخ خالد عبيد فكان لنا هذا الحوار الحصري الذي كشف فيه عن عدة معطيات مهمة تكشف لأول مرّة.
أجرى الحوار: رفيق بن عبد الله
بادرناه بالسؤال: ما الذي جدّ منذ إعلان موافقة وزارة الدفاع من جديد إلى يومنا هذا؟
لا اخفي سرا اني عندما قابلت السيد وزير الدفاع في أفريل الفارط تعهدت له بأن لا أتحدث كثيرا في هذا الموضوع إلى وسائل الإعلام، ويرجع تعهدي هذا إلى رغبتي الشديدة في ان لا يقع استغلال موضوع انساني خالص يتمثل في معاناة عوائل من تم اعدامهم في 1962، تواصلت منذ نصف قرن تقريبا لم تجد هذه العائلات طوال هذه المدة الصعبة للغاية عليهم أي سند يقف معهم ويعينهم على تجاوز محنتهم والتعريف بقضيتهم. لأنه من غير المعقول ان تتواصل مظلمة عدم ارجاع الرفات طيلة هذه المدة وأن يكون هذا الموضوع من المسكوت عنه على جميع المستويات، قلت أنا ضد أن يقع استغلال هذا الموضوع الانساني فيسيّس ويوظّف لأغراض قد لا تكون في صالح هذه القضية الانسانية، بل ربما تسيء إليها من حيث تدري او لا تدري. لهذا آثرت أن أهتم بهذا الموضوع دون ضجيج وجلبة وسخرت له جهدي حتى يمكن التوصل إلى حل لمسألة الرفات وإعادة الاعتبار التاريخي إلى هذه القضية، والآن بدأ المرء يقطف بداية هذا الجهد الذي لم ينثن يوما ولم يفتر في الوصول إلى الهدف الذي رسمته لهذه المسألة منذ أن أخذت على عاتقي تبنيها.
لكنك لم تجبني صراحة كما عهدتك على سؤالي؟ هل ما زلت مترددا في الإفصاح عمّا جدّ من جديد، أم هناك موانع تجبرك على التحفظ والإدلاء للرأي العام بالجديد في هذا الموضوع؟
لا أخفي سرا مرة أخرى انه لدي بعض التحفظ في الموضوع للأسباب التي ذكرتها آنفا، لكن هذا لا يمنع الآن من أن أتكلم بعد أن لاحظت أن هذه القضية ثمة من يرغب -لا يهم ان كان عن قصد او عن غير قصد- في الباسها حلة سياسية ورداء توظيفيا. لقد تم تحديد المكان الذي دفن فيه من تم اعدامهم في هذه المحاولة الانقلابية وذلك بفضل الجهد الكبير الصامت الذي بذلته المؤسسة العسكرية في الغرض منذ أن وعدني السيد وزير الدفاع الحالي بحلحلة مسألة الرفات، وبالتالي أريد أن يعرف ذلك كل الراي العام دون استثناء ودون مواربة، وعلى عكس ما يقال الان في عدة وسائل إعلام سواء منها المرئية او المكتوبة او المسموعة.. اريد أن اتوجه بالشكر إلى المؤسسة العسكرية التونسية، وخاصة اللجنة العسكرية التي كلفها السيد وزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي بمتابعة موضوع استرجاع الرفات. وليس هذا رمي ورود أو مديح، فمن يعرفني يدرك أنني لست من هذا الصنف.. لأن هذه المؤسسة وخاصة اللجنة بذلت جهودا استثنائية متواصلة وحثيثة منذ أن كلفت بالمسألة من اجل الوصول إلى حل يخص هذه المسألة. ولم تأل هذه اللجنة طريقا إلا وسلكته للغرض، أقول هذا باعتباري شاهدا ومطّلعا على ما حدث، وسيأتي اليوم الذي سأتحدث فيه بإطناب عما قامت به هذه اللجنة، وبالتالي من الحيف والتجني القول بعدم ذكر هذا الجهد غير العادي خاصة وأنه بدأ يكلل بالنجاح..
ما زلت على عطشي، وكنت أدّعي أنني أعرفك على أساس أنك كثير التحفظ وهامش مناورتك كبير، لكني اكتشفت أنك أكثر مما أتصور لأنك كنت شحيحا ومناورا أكثر من اللازم؟
(يضحك).. يا سيدي، عندما قلت حُدّد المكان، فإنني أعني أيضا أنه تمّ استخراج الرفات.. او لنقل ما تبقى ممن دفنوا. وذلك منذ أشهر وقد قامت العائلات المعنية باختبار الحامض النووي (ADN) قصد التعرف على هوية الرفات. لكن تعطلت المسألة لأسباب تقنية، باعتبار طول المدة التي انقضت منذ إعدام من حوكم في محاولة الانقلاب. وكم عدد الرفات التي عثر عليها؟
(يضحك) لست أدري.. (مرة أخرى يتحفظ)
سأسألك سؤالا آخر ستجيبني عنه حتما هذه المرة دون مواربة: هل تمّ تجاوز هذا التعطيل لأسباب تقنية مثلما ذكرت؟
نعم، وتم القيام بتحاليل الحامض النووي على ما تم العثور عليه، وتم التعرف على هوية بعض الرفات، ويجري العمل الآن بإتمام بقية الرفات الذي عثر عليه، وللغرض استدعيت بعض العائلات ممن كان أقرباؤهم غير متزوجين عندما أعدموا.. (يعني بها خاصة القفصي، وبركية).
وماذا بعد ذلك؟ !!!
بعد ذلك، وبعد إتمام الإجراءات التقنية الضرورية ستعلن على العلن النتائج التي توصلت إليها اللجنة العسكرية الخاصة المكلفة بملف استرجاع رفات من اعدموا سنة 1962. لكن ذلك يتطلب وقتا ضروريا لن يكون طويلا.. المهم هو أنني واثق أن هذا الموضوع بالذات في طريقه إلى الحل بما يرضي هذه العائلات وبما يسمح بغلق ما أسميته بالجرح النازف في الذاكرة الجماعية التونسية.. لأن استرجاع الرفات سيؤدي حتما إلى إعادة الاعتبار التاريخي لهذه المرحلة والنظر إليها وفق آليات العدالة الانتقالية. لذا لا فائدة من انتهاز البعض لهشاشة الحالة النفسية لهذه العائلات التي صبرت طويلا وعانت كثيرا من الضيم والحرمان، وذلك بإدخالها في أتون خلافات وصراعات ستبعدها حتما عن القضية الأم والقضية الأصل وهي قضيتهم أي قضية من تم اعدامهم إثر ما سمي بمحاولة الانقلاب في ديسمبر 1962. لهذا تراني متمسكا مرة اخرى وأكثر من ذي قبل بضرورة أن لا تخرج هذه المسألة من إطارها الانساني العادل لأنها قضية عادلة وإنسانية في نظري، لأن ما يحدث حاليا أراه مضرّا أكثر مما ينفع لها.
فهمت من كلامك أنك تتابع هذا الموضوع منذ أن أثرته علنا خاصة إثر إعادة نشرك لمقالك المحجوز ورسالتك المفتوحة إلى وزير الدفاع؟
بالفعل أعتبر قضية هذه العائلات قضيتي الشخصية، ولقد سألني السيد وزير الدفاع عشية هذه الرسالة: هل أن والدك ممن أعدم في هذه القضية؟. فأجبته بكل اقتناع: لا !لكن من أعدم كلهم آبائي ! ومن البديهي لمن لديه هذه القناعة أن لا يتخلى أبدا عن هذه القضية مهما تكن الضغوطات. لذا ارتأيت بالتنسيق مع معظم هذه العائلات وبعد التشاور معها، أن يقع تكوين لجنة تعمل على إعادة الاعتبار إلى من أعدم سنة 1962.
هل لي ببعض المعطيات عن اللجنة، ومتى سيبدأ عملها، وماهي الغاية منها؟
سأكون شحيحا معك كالعادة.. (يضحك).. هذه اللجنة تتكون من عائلات من تم اعدام ذويهم في جانفي 1963، وسأكون منسقها العام بحول الله، وستكون هذه اللجنة هي المؤهلة الوحيدة للتحدث حول هذه القضية، وذلك أمام كل وسائل الإعلام، وذلك تجنبا لكل ما قد يسيء إلى هذه القضية الانسانية والعادلة لدى كل الرأي العام التونسي، إذا ما تم توظيفها من هنا او هناك لأغراض بعيدة عن البعد الإنساني والعدالة وما ينتج عن ذلك من خلط لدى الراي العام في مسائل هي ملخبطة أصلا لديه.
ماذا تعني بالخلط واللخبطة؟
أعني، كأن يقع اعتبار ما حدث خلال هذه الفترة ونسب من تم اعدامهم إلى اليوسفية والتيار اليوسفي، والخلط الكبير الذي لاحظته لدى كل من يتحدث عن هذه الفترة سواء في وسائل الإعلام او في المواقع الاجتماعية الالكترونية.. بينما -وهنا أتحدث كمؤرخ- هؤلاء بعيدون كل البعد عن اليوسفيين. فلا يمكن على سبيل المثال أن نعتبر الشهيد الرمز الأزهر الشرايطي يوسفيا، أبدا أبدا.. على عكس ما يظنه الكثير. والشيء نفسه ينطبق على من تم اعدامهم. ومن لديه العكس فليثبته بالوثائق الأرشيفية والمستندات التاريخية الموثقة وفق آليات البحث العلمية التي يعرفها المؤرخون أو فليصمت فذلك أفضل للذاكرة الجماعية لدى التونسيين التي وصفتها ولا زلت بأنها ذاكرة مثخونة ومجروحة وأنه آن الأوان كي يقع تجاوز هذه الجراح الذاكرية من خلال المصارحة وتحديد المسؤوليات والمصالحة لأن هذه البلاد لا تحتمل الحقد الذاكري والحقد الذاكري المضاد، والثأر الذاكري والثأر الذاكري المضاد. من واجبنا حاليا أن نتعظ من أخطاء من سبقنا ولنكن صريحين حتى من جرائم من سبقنا حتى لا نكررها مرة اخرى. لكن أن نبقى على أطلال هذا الماضي وننادي بالويل والثبور فإننا سنعيد حتما ذات الخطإ وذات الجريمة، لكن هذه المرة سيكون الخطأ أكبر والجريمة أشنع لأننا لم نتعظ. وهنا لا بد أن ننوه بأستاذي الجليل الدكتور عبد الجليل التميمي الذي اعتذر علنا سنة 2002 إلى كل من حوكم في هذه المسألة.
اعتذار يشمل التعذيب والإعدام..؟
نعم، لكن للحديث عن التعذيب، فهذا موضوع آخر لأنه هو أيضا لفه الكثير من اللخبطة والخلط.
كلمة أخيرة
شكرا لجنود الخفاء الذين بذلوا -ولا زالوا- كل جهد وفي صمت من اجل حلحلة قضية استرجاع الرفات.
هل أن شخصك ضمن هؤلاء؟
لا... !أراه واجبي لأنني اعتقد جازما أن من تورط في هذه القضية قد تعرض إلى مظلمة تاريخية وبالتالي من واجبي أن أعمل على رفع هذه المظلمة من منظار المؤرخ والمختص وليس من منظار السياسي او المتحزب لأنه ليست لي أية مآرب في الموضوع ولا أتوقع جزاء ولا شكورا لأنه مرة أخرى واجبي.