اختارت فرقة بلدية دوز للتمثيل أن تفتتح مهرجانها الوطني للفن الرابع في دورته الأخيرة بعرض مسرحية «ترياق» الجديدة التي قدمتها لأول مرة في قاعة العروض بدار الثقافة محمد المرزوقي. وقد غصت القاعة بالحاضرين من مختلف الأجيال جمعهم توق لمشاهد فنية وثقافية تحمل هواجس إنسانية بقطع النظر عن المضامين والرؤى والتوجهات التي تطرحها. فكان هذا الحضور دلالة على تجذر لتقاليد فنية وثقافية لدى نسبة هامة من أبناء الجهة. اقتبس نص هذه المسرحية عبد الناصر عبد الدايم عن «قصص الصحراء» للكاتب الليبي إبراهيم الكوني الذي ألف عديد الكتب والروايات عن عالم الصحراء حيث يلقب بفيلسوف الصحراء. وهي أول مسرحية يخرجها الممثل الشاب مكرم السنهوري خريج المعهد العالي للفن المسرحي وجسدها على الركح الثنائي المذكور إلى جانب كل من منصور الصغير ومحمد الحداد ومحمد بلحاج وجمال بن عبد الله والكيلاني فرج. ومثلما اتخذ إبراهيم الكوني الصحراء موضوعا أدبيا وروائيا بما تحويه من دلالات مكانية وتاريخية وما تحيل إليه من رمزية في التوظيف الأسطوري والخرافي والحكائي فقد استطاعت فرقة بلدية دوز أن تمسرح هذا المعطى الطبيعي الذي يطبع حياة أهالي الجهة وتجعل منه موضوع جدل وجودي مطروحا بقوة في مجتمعنا اليوم يتجسد في مفاهيم صراع البقاء والقوة والتمسك بالجذور.
استقراء للدّلالات والمعاني والرموز
مسرحية «ترياق» محاولة من واضع النص والمخرج لاستقراء الصحراء في دلالتها ومعانيها ورمزيتها لتربطها بالراهن من خلال طرح العلاقة القائمة بينها وبين من ولد في الصحراء وخَبَر عوالمها وأصبح يملك مفاتيح رموزها. فيجد هذا المواطن نفسه مقسما بين رغبتين ودافعين الأوّل يدعوه للرحيل والبحث عن الاستقرار في فضاء أو مكان أو عالم مختلف عما ألفه خال من مظاهر الفساد والظلم بكل أنواعها والثاني يدعوه للبقاء والتشبث بالأرض وكل ما يشد إليها من عادات وتقاليد وقيم إلخ... في المقابل يجد هذا المواطن الشاب الحالم نفسه قد وقع بين براثن الطامعين في خيرات الصحراء لا سيّما إذا تعلق الأمر بالمسؤول أو ممثل السلطة مستغلين حلمهم وتوقهم إلى تغيير واقعهم ومجاراة نسق المدنية والتطور بالخروج من التخوم إلى المركز في رحلة البحث عن واقع أفضل نسجوا أطواره وحيثياته في الخيال هروبا من واقع مليء بالعراقيل والحرمان لا يبعث على الخلق والتجديد والتغيير والاكتشاف. فكانت «ترياق» بمثابة الدواء الذي يبحث عنه ليس أبناء الجهة فقط وإنما نسبة من التونسيين أين ما كانوا بحثا عن «براء» من سموم. وقد نجح الممثلون في حمل المتفرج على امتداد ما يقارب الساعتين وعبر مشاهد تنبني على الحوار والصراع المتواتر من خلال المراوحة بين اعتماد اللغة العربية واللهجة المحلية المعتمدة بدوز في محاولة لحمل المشاهد للمسرحية لفهم واكتناه عالم الصحراء من ناحية وتقريب صورة وهاجس فئة من المواطنين في هذا الوطن بعد إسقاط النظام البائد. وتجلّى ذلك في التوظيف المفرط للمفردات والكلمات المتداولة خلال هذه المرحلة من تاريخ تونس على غرار «الديمقراطية» و«الحريّة» في صراعها المتواصل مع السلطة باعتبارها القوة الضديدة الوحيدة التي تقف سدا منيعا أمام قيامها إضافة إلى تكرار مصطلحات «السارق» و«الفاسد» و«الرجعية» و«الخيانة» و«المقاومة». وعمد المخرج إلى توظيف الشاعر الراحل محمود درويش في قراءته لمقطع من قصيدة سقط القناع. فكان الديكور والموسيقى والألوان من العوامل التي ساعدت على تبليغ المعنى وتقريب العمل في مشهد متكامل في أول عرض له. وقد أبدى المخرج وكاتب النص استعداده لمراجعة بعض الجوانب في المسرحية في قادم العروض استجابة لطلبات أهل الميدان وملاحظاتهم التي قد تجد صداها في قادم العروض لأن مسرحية «ترياق» ستعرض في عدد من جهات الجمهورية خلال الأيام القادمة وفي عدد من التظاهرات الثقافية التي ستشهدها بلادنا. نزيهة الغضباني
ملاحظة: تم يوم أمس نشر مقال آخر كان قد صدر بعدد الأحد حول مهرجان دوز للمسرح بدلا عن النص الخاص بالعرض المسرحي الجديد الذي افتتح المهرجان ويتعلق الأمر بخطإ خارج عن نطاقنا وننشر اليوم النص الذي كان من المفروض أن ينشر في عدد يوم أمس ونعتذر للقراء.