الحكومة لم تقم بإجراءات عملية لدفع الاستثمار بالجهات الداخلية نسبة التهرب الجبائي تبلغ 50 % أكد المستشار الجبائي والجامعي محمّد صالح العياري في حديث ل«الصباح» أن الحكومة الانتقالية الحالية لم تنجح بالقدر الكافي لاستنباط الحلول الكفيلة لطمأنة المواطن التّونسي وذلك بسنّ إجراءات عمليّة لدفع الاستثمار والنّهوض بالجهات الدّاخلية والحدّ من البطالة. واعتبر العياري أن النّظام الجبائي التّونسي سليم في جوهره والمطلوب هو إدخال إصلاحات ملموسة لإعطاء المنظومة الجبائية الحالية أكثر توازنا وعدلا ومصداقية خاصة أن ظاهرة التّهرب والتحيّل الجبائي بلغت حدود 50 % حسب آخر التّقديرات في تونس. وفيما يلي نص الحوار:
أجرى الحوار: نزار الدريدي
كيف تقيّم أداء الحكومة الحاليّة وبرنامجها الاقتصادي والاجتماعي؟
لقد تميّز أداء الحكومة الحالية بالتّذبذب ممّا يؤكّد عدم خبرتها في تسيير شؤون الدّولة. ولكنّ الشّيء الّذي زاد الطّين بلّة هو وجود وزراء تنقصهم الكفاءة اللاّزمة للإشراف على بعض الوزارات الّتي لها دور هامّ في خلق مواطن الشّغل وإعطاء الدّفع اللاّزم للحركة الاقتصادية والمحافظة على تألّق تونس في المحافل الدّولية خاصّة وأنّها كانت منبع الرّبيع العربي. أمّا بخصوص برنامجها الاقتصادي والاجتماعي، فأنا أقول بكلّ موضوعية ودون أيّ تحامل على أحد، أنّنا لم نر إلى حدّ الآن برنامجا اقتصاديا واجتماعيا واضح المعالم يمكن أن يخفّف على المواطن التّونسي هاجس التّخوّف من المستقبل. ولعلّ أكبر دليل على ذلك هو غلاء المعيشة وزيادة نسبة البطالة وحالة الاحتقان الّتي ما فتئت تؤجّج التّجاذبات السّياسية.
ما هو تقييمك بصفة عامّة لمشروع قانون المالية التّكميلي لسنة 2012 وخاصّة فيما يتعلّق بالمنظومة الجبائية وهل لديك مقترحات؟
بمناسبة النّظر في قانون المالية لسنة 2012 وأمام الانتقادات الموجّهة للحكومة آنذاك، وعدت الحكومة المؤقّتة بإعداد قانون مالية تكميلي في أجل أقصاه شهر مارس 2012 سيتضمّن إصلاحات هامّة لحلّ المشاكل اليوميّة للمواطن التّونسي. وإن كانت الحكومة قد أوفت بوعدها في إعداد مشروع قانون المالية التّكميلي في الآجال المحدّدة لذلك، لكنّها لم تنجح بالقدر الكافي لاستنباط الحلول الكفيلة لطمأنة المواطن التّونسي وذلك بسنّ إجراءات عمليّة لدفع الاستثمار والنّهوض بالجهات الدّاخلية والحدّ من البطالة الّتي ما فتئت تتفاقم من يوم إلى آخر. ولعلّ القشّة الّتي قسمت ظهر البعير تتمثّل في عدم إدراج أحكام لإصلاح المنظومة الجبائيّة وذلك لتوزيع العبء الجبائي على كلّ فئات المجتمع بأكثر عدالة وللحدّ من ظاهرة التهرّب والتّحيّل الجبائي ولتحقيق المصالحة بين إدارة الجباية والمطالب بالضّريبة. ولكي لا نبقى في المستوى النّظري، وخلافا لما أكّده وزير المالية بأنّ الوقت لا يكفي للقيام بإصلاح المنظومة الجبائية، أريد أن أؤكّد بأنّ النّظام الجبائي التّونسي سليم في جوهره وذلك بالمقارنة مع عديد الدّول الّتي هي في طريق النّموّ مثل تونس، ولكنّ المطلوب هو إدخال إصلاحات ملموسة لإعطاء المنظومة الجبائية الحالية أكثر توازنا وعدلا ومصداقية والّتي يمكن أن تتمحور حول العناصر التّالية: - مراجعة النّظام التّقديري الّذي يمثّل الحلقة الضّعيفة في النّظام الجبائي التّونسي باعتباره يضمّ حوالي 380.000 شخص لا يستجيب أغلبهم للشروط القانونية للانضواء تحت هذا النّظام مقابل مساهمة ضعيفة في مستوى المداخيل الجبائية الّتي لا تتجاوز حوالي 40 مليون دينار في حين أنّ الأجراء يتحمّلون لوحدهم حوالي 45 % من مجمل الضّريبة على دخل الأشخاص الطبيعيين لأنّهم مجبرون على تحمّل عملية الخصم من المورد على الأجور. - التّخفيض من نسب الضّريبة على الشّركات وذلك لتشجيع المؤسسة الاقتصادية على الاستثمار وخلق مواطن الشّغل خاصّة بعد الأزمة الخانقة الّتي أصبحت تعيشها المؤسّسة إزاء الرّكود الاقتصادي الّذي استفحل خلال الفترة الأخيرة، خاصّة إذا قارنّا النّسب الحالية الّتي هي في حدود 35 % و 30 % مع النّسب المطبّقة في بلدان لها نفس النّمو الاقتصادي مثل مصر 20 % وبولونيا 19 % و رومانيا 16 % والأردن 15 بالمئة وكذلك تركيا الّتي تفوق تونس اقتصاديا ولكن نسبة الضّريبة على الشّركات لا تتجاوز 20 %. - حذف الإعفاءات في مادّة الأداء على القيمة المضافة وتعويضها بنسبة 0 % أو1 % على سبيل المثال وذلك لعدم قطع سلسلة الطّرح (chaîne de déduction) من ناحية ولاجتناب التّراكمات الجبائية (Rémanence fiscale) من ناحية أخرى. - إخضاع الأرباح الموزّعة لنسبة دنيا لا تفوق على سبيل المثال 10 % وذلك للحصول على مداخيل جبائيّة إضافيّة ولعدم إعطاء حقّ إخضاعها كليّا في بلد مقرّ المنتفع بها بالنّسبة للأجانب مع إمكانية مواصلة الإعفاء بالنّسبة للأرباح الموزّعة بين الشّركة الأمّ وفروعها وبالنّسبة للأسهم المدرجة بالبورصة ممّا سيعطي حركيّة أكبر لبورصة الأوراق الماليّة . - إعادة النّظر في جدول الضّريبة على الدّخل والمبالغ القابلة للطّرح من قاعدة الضّريبة على الدّخل وذلك لتخفيف العبء الجبائي على ضعاف الحال وإعفاء أصحاب الأجر الأدنى الصّناعي المضمون (SMIG) مع إمكانيّة التّرفيع في النّسب بالنّسبة لشرائح المداخيل المرتفعة . وأنا أؤكّد بأنّ هذه الإجراءات يمكن تحقيقها خلال فترة ثلاثة أو أربعة أشهر وعرضها على الهياكل والمنظّمات المهنيّة للتّشاور حولها مع استعمال الإعلاميّة لتحديد تأثيرها على موارد ميزانيّة الدّولة خاصّة وأنّ إطارات إدارة الجباية لها تجربة من الإصلاحات الجبائيّة السّابقة ومتعوّدة على إدراج الأحكام الجبائيّة سنويّا ضمن قوانين الماليّة ولكن الفرق الوحيد هو أن لا تكون إجراءات ترقيعيّة بل إجراءات جوهريّة يكون لها تأثير مباشر على إصلاح المنظومة الجبائيّة . إنّ الشعب الّذي أنجز ثورة نموذجيّة في أقصر الآجال يمكنه أن يحقّق ثورة جبائيّة تستجيب لطموحات الفئات الضّعيفة وتؤسّس للعدالة الجبائيّة الّتي طالما حلمنا بها. ما هي الإصلاحات التي كان من المفروض إدراجها في برنامج الحكومة الحالي؟ إلى جانب الإصلاح الجبائي الّذي عرّجت عليه في السّؤال السّابق، كان بالإمكان إدراج إصلاحات تهمّ بالأساس خلق أقطاب جهويّة لدفع الاستثمار حسب خصوصيّة كلّ جهة،وإعطاء الاستقلالية الماليّة للجماعات المحليّة لتتحمّل مسؤوليّة خلق مواطن الشّغل وتركيز مرافق الحياة الكريمة بالجهات الدّاخليّة للحدّ من ظاهرة النّزوح مثل بناء الكلّيات والمستشفيات والطّرقات وتطوير شبكة السكّك الحديديّة وذلك لتسهيل التّواصل بين الجهات وللحدّ أكثر ما يمكن من التّفاوت الجّهوي حتّى يشعر التّونسي، أين ما كان، بالنّخوة والاعتزاز لانتمائه إلى هذه الأرض الطّيبة.
ما هو موقفك من مسألة العفو الجبائي خاصة في ظل تهرب عدد كبير منهم لسداد المستحقات المتخلدة بالذمة؟
بالنسبة للعفو الجبائي حدّث ولا حرج وذلك باعتباره يمثّل سلاحا ذو حدّين : من ناحية يساهم في تمكين العديد من المطالبين بالضّريبة من تسوية وضعيّتهم الجبائيّة وخلاص الدّيون المثقلة عليهم وتمكين ميزانيّة الدّولة من موارد جبائيّة إضافيّة. ولكنّه يساهم من ناحية أخرى في تكريس المنافسة غير الشّريفة بين الّذين قاموا بواجبهم الجبائي في الآجال القانونيّة وبين اللّذين تهرّبوا من دفع الضّرائب المستوجبة ممّا سيكون له تأثير سلبي على احترام الواجب الجبائي ويشجّع على عدم دفع الضّرائب والأداءات وذلك في انتظار عفو جبائي آت لا ريب فيه . وبالتّالي ، يكون من الأفضل القطع بصفة نهائيّة مع ظاهرة العفو الجبائي حتى يصبح المطالبون بالضّريبة سواسية أمام احترام واجبهم الجبائي. لكن الحكومة ترى أن إصلاح منظومة الجباية قد يتطلب وقتا واستشارات وطنية موسّعة. ما رأيك؟ يمكن القيام بإصلاح المنظومة الجبائيّة خلال مدّة ثلاثة أو أربعة أشهر وذلك بمطالبة كلّ الأطراف المعنيّة بتقديم مقترحاتها وهي جاهزة حاليّا في جزء كبير منها وتمّ التّشاور في شأنها في العديد من المناسبات لتقوم المصالح المختصّة بإدارة الجباية بإعداد مشروع يقع عرضه على الهياكل والمنظّمات الّتي لها علاقة بإدارة الجباية لتعميق النّظر في شأنها لمدّة أسبوع على أقصى تقدير .ثمّ يقع إعداد المقترحات شبه النّهائيّة لعرضها على مجلس الوزراء مع إمكانيّة مواصلة التّشاور مع بقيّة الأطراف وذلك للوصل إلى صيغة نهائيّة يقع عرضها على المجلس التّأسيسي . إنّ إصلاح المنظومة الجبائيّة غير مرتبط بمدّة زمنيّة طويلة ، بل بالرّغبة في تحقيق هذا الهدف الّذي يتطلّب العزيمة السّياسيّة والتّفاعل الإيجابي بين كلّ الأطراف المعنيّة وأنا ثقتي كبيرة في زملائي السّابقين بإدارة الجباية لرفع هذا التّحدي كما رفعته الإدارة التّونسيّة بعد اندلاع الثّورة المجيدة ببلادنا. بم تفسر هذا التباطؤ والتأخير في إصلاح منظومة الجباية؟ هذا يعود بالأساس إلى عدم خبرة المشرفين على وزارة الماليّة بالإدارة من ناحية وعدم تمرّسهم على الجباية من ناحية أخرى. أقول هذا بكلّ موضوعيّة رغم كلّ ما أكنّه من احترام وتقدير لوزير الماليّة الحالي الذي كان أستاذي بكليّة العلوم الاقتصادية ولكن ذنبه الوحيد هو أنّ مهنته كأستاذ جامعي في الاقتصاد لم تسمح له بالتّمرس على الإدارة ولم تمكّنه من التعمّق في المسائل الجبائيّة لكي يقوم بمغامرة إصلاح المنظومة الجبائيّة في وقت وجيز. كم تبلغ قيمة التهرب الضريبي في تونس وهل هناك انعكاسات على الاقتصاد الوطني؟ التحيّل والتّهرب الجبائي يعتبر ظاهرة عالميّة لا تخلو منها دولة أو نظام مهما كان مستوى التّطوّر الثّقافي والاجتماعي. ولكن هذه الظّاهرة متفشيّة أكثر في الدّول الّتي هي في طريق النّمو وذلك يعود بالأساس إلى عدم قدرة المطالب بالضّريبة على تحمّل العبء الجبائي نظرا لإمكانياته المحدودة في أغلب الأحيان وإلى عقليّة المواطن الّتي لم ترتق إلى مستوى فهم معنى الواجب الجبائي . هذه النّسبة المرتفعة للتّهرب الجبائي والتحيّل الجبائي لها تأثير سلبي على الاقتصاد الوطني لأنّها تعمّق المنافسة غير الشّريفة بين المؤسّسات الاقتصادية، وتحول دون تحقيق العدالة الجبائيّة وتحرم ميزانيّة الدّولة من موارد هامّة لبعث المشاريع وخلق مواطن الشّغل.