تشهد الجزائر اليوم استحقاقا انتخابيا في زمن ومكان، قد يشكلان إذا ما شاءت الظروف وتوفرت السبل- جسرا سياسيا للعبور بهذا البلد إلى «زمن الديمقراطية». في وقت يشهد المكان عدة تحديات جيوسياسية تأمل القيادة الحالية في بلد المليون شهيد أن تمر بها إلى «مرحلة جديدة» من الوفاق السياسي بعد أن عرف هذا البلد عدة محطات مريرة على الصعيدين التنموي والسياسي، كان أهمها فشل التجارب التنموية الإشتراكية طوال عقدين ونصف تبعتها «عشرية سوداء» (التسعينات) عاشت فيهما البلاد على وقع حرب أهلية مدمرة بين الإسلاميين والجيش الذي مسك بزمام الأمور السياسية في البلاد طوال تلك الفترة. لكن رغم هذا الزخم من المعطيات والأحداث السياسية التي عاشتها الجزائر إلا أنها بدأت منذ بداية القرن الحادي والعشرين في الذهاب بعيدا على جميع المستويات وخاصة السياسية والإجتماعية والإقتصادية، بدأت في البحث عن سياسة جديدة، حيث قرر الإئتلاف الحاكم في الجزائر تجذيرها بصفة مرحلية،و استهلها الرئيس بوتفليقة بإعلان مصالحة وطنية شاملة مع الجماعات المسلحة ، وانتهت بمحاولة حذرة للدخول في «زمن الديمقراطية» الذي عصف بالمنطقة بداية مع ثورة الحرية والكرامة في تونس، مرورا بثورة 17 فبراير في ليبيا والتي كانت محطة شهدت خلالها العلاقات بين الجزائر والسلطة الجديدة في ليبيا توتر مع الموقف المعلن جزائريا من «ثورات الربيع العربي» والتي ترى فيها الجزائر أنها ثورات مخططة من الغرب، وأنها في الطريق إليها، خاصة وأنها ستخلق فوضى سياسة لن تكون «بناءة» بالنسبة للإدارة الجزائرية التي تعمل على استراتيجية جديدة تنمويا وسياسيا. شبح 1990 ولهذا السبب و غيره أيضا فانه من المفترض أن تكون الانتخابات الحالية محطة لمحاولة الحفاظ على درجة من الإستقرار السياسي بالنسبة للإدارة السياسية الحالية في الجزائر وعدم العودة من جديد إلى مربع 1990 الذي كانت فيه استحقاق الإنتخابات، منطلقا لحرب أهلية أكلت الأخضر واليابس. لذلك فإن بعض المتأملين للاستحقاق الإنتخابي الجزائري يرون أن الإصلاحات السياسية الجزائرية التي أعلن عنها عبد العزيز بوتفليقة قبل عام لن تكون لها أثر كبير على الحياة السياسية الجديدة في الجزائر، رغم أنها من الممكن أن توفر «نشاطا جديدا» على المشهد السياسي بصفة عامة. ويشير الدكتور عبد القادر عالي (أستاذ علوم سياسية وعلاقات دولية جزائري) ضمن دراسة نشرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بعنوان «الإصلاحات السّياسيّة ونتائجها المحتملة بعد الانتخابات التشريعيّة في الجزائر» إلى أن أكثر ما يؤذي «الحياة السياسية هي ظاهرة إحتكار الأحزاب السياسية الكبرى للساحة السياسية» مضيفا أن الأحزاب الناشئة لن تخرج عن ظاهرة احتكار الأحزاب الكبيرة للحياة السياسية. ويعطي الدكتور عبد القادر عوامل عديدة تدخل ضمن علم الإجتماعي السياسي، حيث يشير إلى أن الأحزاب الناشئة تتقرب أكثر إلى الإدارة وليس للمجتمع، ولعل هذا ما يمكن أن يعطي تفسيرا حول التقارير الإعلامية التي تشير إلى فتور في الحملات الإنتخابية للأحزاب مع إشارة واضحة إلى أن نسب التصويت لن تكون مريحة، في وقت يشير مراقبون إلى أن المشهد السياسي عشية الإنتخابات مازال ضبابيا وغير واضح المعالم. هذا المشهد السياسي للجزائر عشية الإنتخابات يمكن أن يلوح بعدة سيناريوهات سياسية لما بعد الإنتخابات التشريعية، والتي تبقى رهينة الإرادة السياسية للسلطة الإئتلافية الحالية في الولوج بكامل الثقل في العملية الديمقراطية، وهو ما لا يمكن أن نسلم به في هذه الفترة التي تمر بها البلاد بعدة تحديات إقتصادية وخاصة أمنية، فرضها «الزلزال الجيوسياسي» الذي قلب الخريطة الجيوستراتيجية رأسا على عقب بعد الربيع العربي. فالناظر إلى تاريخ الجزائر المعاصر بعد الاستقلال, يلاحظ أن الجزائر دخلت سريعا في معترك التنمية ذات التوجه الإشتراكي. فاقتصاد الجزائري في فترة ما بعد الاستقلال كان يرتكز على الزراعة والتجارة وجزئيا على الصناعات الخفيفة والضعيفة . فالصناعة الثقيلة كانت و لا تزال منعدمة. امام هذا الواقع الاقتصادي الصعب للغاية قررت الحكومة الجزائرية الخوض في غمار التصنيع وبخاصة التصنيع الثقيل، معتبرة ان التصنيع يشكل مفتاح الحل الاقتصادي والاجتماعي. وكانت تجربتها في التصنيع مستوحاة من تجارب بعض الدول كالاتحاد السوفياتي السابق الذي اعطى الافضلية للتصنيع الثقيل على حساب الصناعات الخفيفة.كان هدف الجزائر في تلك الفترة الإقدام على استغلال النفط والطاقة بهدف انشاء صناعة تشكل ركيزة لاقتصاد وطني متكامل . وهكذا كانت الاستثمارات في الصناعة كبيرة وبلغت أشواطا أكبر من الاستثمارات في الزراعة، بينما كان السكان الزراعيون يساوون ثلثي سكان الجزائر، ولذلك تعرض هذا النهج التنموي في محصلة أخيرة إلى «خيبة أمل» رغم أنه وفر للجزائر بنية أساسية صناعية ممتازة، إلا أنه تعرض فيما بعد إلى هزات كبيرة طبيعتها «العقلية» والثقافية الاجتماعية، كانت نتائجها اصطدام كبير بين «الحداثة» كثقافة والتوجه «المحافظ» كانتماء في سنة 1990 والذي أدى إلى حرب أهلية عاشتها الجزائر كامل العقد الأخير من القرن العشرين. هذه الحرب أدت في مجملها إلى نسبة تضخم كبيرة للعملة الجزائرية، وأدت إلى ارتفاع المعيشة فضلا عن اضمحلال الإستثمارات الداخلية والخارجية، وغياب للقطاع الخاص والذي أصبح يستعمل السياسة للوصول إلى مآرب اقتصادية تفاضلية مع ارتفاع الفساد سنوات الحرب (قضية الخليفة التي مازالت مرفوعة لدى القضاء الجزائري والبريطاني والفرنسي)، مما أدى إلى تراجع اقتصادي كبير حاولت الدولة كلاعب اقتصادي أساسي في الجزائر تلافيه بالإعتماد على مدخرات كبيرة من النفط والغاز، حفاظا على استقرار معين للإقتصاد الجزائري ووفر قاطرة ممتازة بالنسبة للسلطة الجزائرية للمرور نحو اصلاحات اقتصادية تتميز خاصة بالإنفتاح، ومشاركة القطاع الخاص، وذلك للعمل على زيادة الإستثمارات والتغلب على مشاكل ذات الصبغة «الاقتصادية- الاجتماعية» وخاصة فيما يتعلق بالبطالة في صفوف الشباب (75 في المائة من مجموع السكان) والفقر، والمناطق المهمشة والتي كانت عاملا في قيام الكثير من المظاهرات وصلت إلى حد المطالبة بالإنفصال وخاصة في منطقة «القبايل» الجبلية المحاذية للحدود التونسية والتي تتميز بانتشار المجموعات الإرهابية في محاولة لإستدراج الشباب وتجنيده. تحديات بالجملة هذه السياسة الجديدة كان لها كبير الأثر على الموازنة الجديدةالجزائرية التي استطاعت من أن تتخلص من جميع قروضها لنادي باريس سنة 2007، إلا أنها بقيت رهينة لتحديات الإجتماعية وخاصة البطالة التي تسببت في حالة فوران سياسي واجتماعي كبيرين في نهاية سنة 2010. من هنا يتحدد أن الإدارة الجزائرية تعمل على أساس مرحلي واستراتيجي للوصول إلى تحقيق استراتيجية ثلاثية لتطوير القطاع الإقتصادي تمر ب 3 مراحل مختلفة وهي «الإصلاح ،الانعاش والنمو» وهو في الأخير ما يتطلب شروطا أساسية لتحقيقه أهمها الإستقرار السياسي ضمن توافق سياسي مع كافة المكونات السياسية للمجتمع الجزائري وخاصة الإسلاميين الذين يبدون اليوم تحت مجهر المتابعة، خاصة وأن الربيع العربي أتى بالاسلاميين إلى السلطة وهو ما يرنوا إليه تحالف الأحزاب الإسلامية في الجزائر بعد هذا الإستحقاق الإنتخابي، خاصة بعد أن ألقوا السلاح والتحقوا بالعملية السياسية السلمية ورغم تعدد التحديات السياسية والإجتماعية والإقتصادية التي فرضها الربيع العربي على الجزائر إلا أن أبرز تحد يواجهها يبقى التحدي الأمني في بلد فيه بعض التنوع العرقي والمتمثل أساسا في العرب والأمازيغ والطوارق الذين يعيشون في جنوبالجزائر ضمن الصحراء الكبرى، والتي تشهد عدة تحولات جيوسياسية «خطيرة» على بلد المليون شهيد، بعد إعلان الطوارق في شمال مالي لدولة أزواد حيث تحالف جميع الطوارق المنتشرين في الصحراء من التشاد حتى المملكة المغربية، والحركات الإسلامية المتطرفة وخاصة القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي التي تعتبر وليدة «الجماعة الإسلامية المقاتلة « في الجزائر والتي كانت أحد أطراف «حرب العشرية السوداء». ولعل هذا التحدي الأمني فرضته ظروف عديدة أهمها الثورة التي قامت في ليبيا وتسببت في خروج مخزون من الأسلحة طفا على كثبان رمال الصحراء وأصبح مصدرا للتهريب واستقواء الحركات الإرهابية في الصحراء الكبرى والتي تشهد منذ أولى سنوات العشرية الأولى من الألفية الثالثة تحالفا بين 3 مكونات اجتماعية وهم جماعات التهريب وقبائل الطوارق الذين يعرفون طرق الصحراء بالإضافة إلى الجماعات الإسلامية المتطرفة والجهادية وخاصة جماعتي التوحيد والقتال والقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي والذين قاموا بإعلان دولة أزواد. هذا التحدي الأمني المستديم، أخذ الجزائر إلى المسك بزمام الأمور في محاولة للقضاء عليه منذ سنوات، وأخذت الجزائر تنسق الجهود الإستخبارية للعمل على ذلك، رافضة التدخل الأمريكي في القيام بعمليات نوعية ضمن فضاء الصحراء الكبرى، وذلك خوفا من «ولوج الفوضى إلى الجزائر» على حسب ما يحلو لعدد من المحللين قوله. وفي محصلة أخيرة فإن الإستحقاق الإنتخابي في الجزائر قد تكون تجربة أولى في الديمقراطية لكنها لن تكون نقطة التحول في المشهد السياسي الجزائري، خاصة وأن هذا البلد يعمل على أساس مراحل استراتيجية للتنمية الشاملة، وهو ما يستوجب استقرارا اقتصاديا وأمنيا من جهة، واستقرارا سياسيا من جهة أخرى. ورغم ذلك فإن هذه الإنتخابات قد تشهد ميلاد حياة سياسية جديدة تبنى على أسسها الديمقراطية، وذلك لأن هناك فرصة كبيرة لولادة معارضة فعلية ضمن الفضاء البرلماني أو خارجه، مقابل بقاء الأحزاب التاريخية في سدة الحكم. إن هوية المكان (الثقافة الإجتماعية)، وطرح الزمان (الظروف الإستراتيجية المحيطة)، قد لا يساهمان في قلب الموازين السياسية في الجزائر، بقدر ما سيساهمان في بداية ترسيخ ثقافة الديمقراطية في بلد المليون شهيد، والتي تتميز بسيطرة الإدارة العمومية على الحياة السياسية.